العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ

صمت آخر الأصوات!

عبير إبراهيم abeer.ahmed [at] alwasatnews.com

غريب أمر هذا الإنسان، يظل صامداً أمام كل التحديات ومواجهاً لأعتى الأعاصير، يظل في نظرنا جبلاً شامخاً لا تهزه ريح، وفجأة تبدأ لحظة الانكسار ترتسم على محياه من جراء مرض داهم جسده وسمم دمه، فما عاد ينفع معه لا دواء ولا طبيب ولا صراع لأيام وأيام، كانت نهايته حتمية لا يد له في تغييرها وتبديلها، وحينها يرفع الراية البيضاء معلنا انسحابه من الحياة والانتقال إلى العالم الآخر.

في هذا الشهر الكريم ومنذ زمن بعيد فارقنا مغدوراً به ومسموماً، ولم تشفع له صلاة الفجر في تأخير يوم رحيله إلى بارئه، فاستسلم للقدر وبقي الحزن على فقده وحبه، والأمل في ملاقاته نبضاً في قلوبنا يحيي فيها سيلاً من العواطف، يكاد الزمن أن يبدلها بقساوة، لولا ذكراه الخالدة في الضمائر الحية وكنوزه التي أورثنا إياها، وعاهدنا أنفسنا على الحفاظ عليها ووجدناها - أنفسنا - على العهد باقية من دون إرادة منها... وهل لمثلك مكان مثل مكانك؟!

وفي هذا الشهر الفضيل أيضاً، وتحديداً في هذا العام، فارقنا اثنان من حكامنا العرب، عُرفا بنضالهما من أجل شعبهما وعزة وطنهما، وإن كانت ساحة القتال مختلفة، والفارق بين (الفقيدين) أيام تعد على الأصابع... فأية حسرة خلفاها، وأي مستقبل ينتظر شعبين علقا آمالهما كلها على رئيسين كانا محلاً لثقتهما، وكان خيرهما بينا لكل عين بصيرة؟!

وإن كنا سنرجئ دولة الإمارات الشقيقة للأيام، تكشف لنا ما خلفه الفقيد في وريثه، فذلك لكون ساحتها ليست محل خلاف ونزاع، وحكامها هم أهل للثقة بإذن الله... ولكن الساحة التي تهمنا الآن هي في باطنها قصة أزلية شائكة ومعقدة شخوصها، ما كادوا يرحلون حتى يتجددون في هيئة أناس آخرين يتولون سبك حوادثها وسير الأمور فيها!

فلسطين التي ما فتئت تلد الأبطال والشهداء، وعينها ما برحت تنظر إلى الشمس عل نورها يضوي ولو جزءًا بسيطاً من ظلام الطغيان، ويبدد ضوء المدافع والرشاشات التي نهشت أجساد الملايين وحطمت وشغلت قلوب البلايين من داخل الأرض وخارجها... كانت بادرة الأمل في شخص رجل مناضل حمَّله الشعب همه، فكان أهلاً لحمل هذا الثقل العظيم، ولسان حال هؤلاء المتوفين الأحياء في أرضهم والناطق باسمهم والصارخ بأصواتهم في المحافل حتى أثمر الصوت دويلة يعترف الجميع بكيانها ودستورها وإن كانت في ساحتها تجاهد وتناضل وتسيل دماء أبنائها وتهد بيوتهم على رؤوسهم وتنهب أراضيهم ومحلاتهم بغير وجه حق وفي أبشع صورة لا تملك العين عند مشاهدتها إلا البكاء والنحيب... وأمام قيود العجز التي كبل بها أولو أمرنا قبلنا فالتزمنا جميعا الصمت ولو من وراء حجاب التنديدات والمسيرات المستنكرة فقدنا أرضا قدسها الله وسمحنا للطامعين بغزوها وتدنيسها وبقينا نحن نتفرج من بعيد ونذرف الدموع على اللبن المسكوب.

فيا لفرحة الأعداء برحيلك ويا لتعاسة الفلسطينيين بعدك... فها هو جسدك المسجى على تابوتك يقوم بآخر جولاته في رحلة تبدأ من باريس إذ فاضت روحك إلى بارئها وأنت المعلوم عنك مجابهتك لمحاولات كثيرة كانت على بعد شعرة من اغتيالك فأبيت الاستسلام للغدر ورضيت به (الاستسلام غدرا أو قدرا) عنوة في مرضك... ثم تمر بالقاهرة لتشييع جنازتك إلى أن تصل إلى رام الله، إذ محطتك الأخيرة التي لن تغادرها أبدا... ونحمد الله أن رحمك بسكن أرضك في مثواك الأخير وإن كانت بغير ما تبغي... فكلها في النهاية أرض واحدة... ولكن أسفي على هؤلاء الذين غربوا في وطنهم وفي غير وطنهم وماتوا وهم غرباء

إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"

العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً