العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ

«لكل حصان كبوة»: حين يصاب الضياء بفيروس الظلمة!

الشعر موجود في السياسة يا سيدضياء

حسن الصحاف comments [at] alwasatnews.com

لكل حصان كبوة وكبوة سيدضياء الموسوي الكاتب في صحيفة «الوسط» قوله: «أعلم أن الشعر ليس له وجود في السياسة» أو أن السياسة ليس لها وجود في الشعر، وهو بربي قول عظيم يؤثم عليه الكاتب وهو قول لا يتصل بالحقيقة التي سَكَبْت دماً طاهراً نتيجة للشعر «في السياسة» أو للسياسة في الشعر. وإنه بربي خطأ كبير يستحق جهد الرد عليه وإظهار قصوره وتقصيره وجعله رسالة طويلة في الاحتجاج على نمط العِجاج (هذه المفردة ذات معنيين مشهورين فلك يا عزيزي أن تختار أحدهما) في الأفجاج والتلاش، وإلا لم يقول رجل يدافع عن الثقافة ويدافع عن تطاول البعض المتعالي على البعض الماكث عند عتبات التواضع ما أوردنا له من قول ومقولة.

نورد هنا قطرة من بحر لما للشعر «في السياسة» من جواهر هي ليست خفية على بصر وبصيرة اللبيب الفاهم والعارف لا المتعارف، والمنشغل بهم الدنيا والناس لا همومه والخناس عسى أن يغير الضياء مساره ويعالج الإصابة بفيروس الظلمة بنور الحقيقة ويقدم في ديباجة ليس كمثلها ديباجة اعتذاره للشعراء الميامين لا الذين «فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ» (الشعراء، 224-226) بل لكل أولئك الشرفاء منهم الذين هم قولٌ وفعلٌ في كل ما يفعلون.

فدعنا نبدأ معك يا سيدضياء، من حيث انتهى كثيرون قالوا كثيراً من الشعر في إنهاض واستنهاض الأمة من كبواتها، يقول لا فض فوه في «إرادة الحياة» «أبا القاسم الشابي»:

إذا الشعب يوماً أراد الحياة

فلابد أن يستجيب القدر

ولابد لليل أن ينجلي

ولابد للقيد أن ينكسر

ومن لم يعانقه شوق الحياة

تبخر في جوها واندثر

أخبرني بربك أليس في هذا القول من الشعر العظيم شيء «في السياسة»؟ أليس هذه الشعر المنحوت من دم طاهر كله «في السياسة». ثم استمع إليه يصرخ في قصيدة بعنوان «مقطوع اللسان»:

البُؤْسُ لابْنِ الشَّعْبِ يَأكُلُ قَلْبَهُ

وَالمَجْدُ وَالإثْرَاءُ للأغْرَاب

وَالشَّعْبُ مَعْصُوْبُ الجفُوْنِ مُقَسَّمٌ

كَالشَّاةِ بيْنَ الذئْب والقَصَّابِ

وَالحقُ مَقْطُوْعٌ اللسانِ مُكَبَّلٌ

وَالظَّلْمُ يَمْرَحُ مُنْهَبَ الجلْبَابِ

هَذَا قَلِيْلٌ مِنْ حَيَاةٍ مُرّةٍ

فِي دَوْلَةِ الأنْصاب وَالألْقَابِ

لن أقول شيئاً هنا، بل سأتركك لتقرأ معي للشافعي هذه الأبيات التي تجري في التاريخ كما يجري الهواء في ردهات الحياة، يقول:

إنْ المُلُوْكَ بلاءٌ حيثما حلّوا

فلا يكُنْ لك في أبوابهم ظِلٌّ

ماذا تُؤَملُ منْ قومٍ إذا غضبُوا

جاروا عليك وإن أرضيتهم ملوا

فاستغن بالله عن أبوابهم كرماً

إن الوقوف على أبوابهم ذُلُّ

ثم تمعن حفظك الله ورعاك في قول شاعر القرطاس والقلم «المتنبي في قصيدة له بعنوان: «إذا غامرت في شرف مروم»:

إذا غَامَرْتَ فِي شَرَفٍ مَرُومِ

فَلاَ تَقْنَعْ بمَا دونَ النجومِ

فَطعْمُ المَوْتِ فِي أمرٍ حَقِيرٍ

كَطَعْمِ المَوْتِ فِي أمرٍ عظيمِ

إلى أن يقول:

يَرى الجُبَنَاءُ أنَّ العَجْزَ عَقْلٌ

وتِلْكَ خَدِيْعَةُ الطَّبْعِ اللَّئيْمِ

وكل شجاعةٍ في المرءِ تُغْنِي

ولاَ مثلَ الشَّجَاعَةِ في الحَكَيْمِ

ثم يقول هذا الشاعر الفذ في قصيدة له بعنوان «عش عزيزاً» يبدأها بقوله:

كَمْ قَتِيْلٍ كَمَا قُتِلْتُ شَهِيْدِ

لِبيَاضِ الطُّلَى وَوَرْدِ الخُدُوْدِ

إلى أن يقول:

مَا مُقَامِي بأرضِ نخلة إلا

كمُقامِ المسيحِ بين اليَهُوْدِ

إلى أن يقول:

ضَاق صدري وطال في طلب الرز

ــق قيامي وقل عنهُ قُعُوْدِي

املأ بصرك ثم بصيرتك بهذه الأبيات لأشهر عبد تحرر من عبوديته بأروع صور النضال والكفاح وانتزعها انتزاعاً ليس كمثله انتزاع:

لا تسقني ماء الحياة بذلة

بل فاسقني بالعز كأس الحنضل

ماء الحياة بذلة كجهنم

وجهنم بالعز أطيب منزل

ثم انتهي معك مع هذه الأبيات للشاعر «عمر أبوريشة» عسى أن تنتشلك من كبوتك:

أمتي، هل لك بين الأممِ

منبرٌ للسيفِ أو للقلمِ

أتلقاِّكِ وطرفي مطرقٌ

خجلاً مِن أمسك المنصرمِ

ويكادُ الدّمعُ يهمي عابثاً

ببقايا كِبرياء الألمِ

بل لنقرأ معاً ما يقول «أدونيس» في بعضٍ من أبيات قصيدة بعنوان «مقدمة لتاريخ ملوك الطائف»:

«قتلتني قتلت أغنياتي

أأنتِ مجزرة

أم ثورة؟

أحارُ، كل لحظة أراك يا بلادي في صورةٍ...

وعليّ يسأل الضوء، ويمضي

حاملاً تاريخه المقتول من كوخٍ لكوخ:

(علموني أن لي بيتاً كبيتي في أريحا

أن لي في القاهرة

أخوة، أن حدود الناصرة

مكة.

كيف استحال العلم قيدا؟

ألهذا يرفض التاريخ وجهي؟

ألهذا لا أرى في الأفق شمساً عربية؟)

اقرأ «أمل دنقل» في قصيدة له بعنوان «لا تصالح»

«لا تصالحْ!

... ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى...؟»

اقرأ يا «ضياء» في هذا الضياء لـ «نزار قباني»:

«لن تجعلوا من شعبنا

شعبَ هنودٍ حُمرْ...

فنحنُ باقونَ هنا...

في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها

إسوارةً من زهرْ

فهذهِ بلادُنا...

فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمرْ

فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعرْ

مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها

مثلَ حشيشِ البحرْ...

مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها

في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها

في قمحِها المُصفرّ

مشرِّشونَ نحنُ في وجدانِها

باقونَ في آذارها

باقونَ في نيسانِها

باقونَ كالحفرِ على صُلبانِها

باقونَ في نبيّها الكريمِ، في قُرآنها..

وفي الوصايا العشرْ».

اقرأ لبدر شاكر السياب وكأنه يحيا بيننا اليوم:

«الريح تلهث بالهجيرة، كالجثام، على الأصيل

وعلى القلوع تظل تطوى أو تنشر للرحيل

زحم الخليج بهن مكتدحون جوابو بحار.

من كل حاف نصف عارٍ

وعلى الرمال، على الخليج

جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج:

ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج

أعلى من العباب يهدر رغوه ومن الضجيج»،

صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى: عراق.

كالمد يصعد، كالسحابة، كالدموع إلى العيون

الريح تصرخ بي: عراق

والموج يعول بي: عراق، عراق، ليس سوى عراق

البحر أوسع ما يكون وأنت أبعد ما يكون

والبحر دونك يا عراق»

اقرأ لشاعر لربما تعرفه لكونه يقطن في محيطك وتقطن أنت في محيطه: «قاسم حداد»

كان الجبل في أحداقنا

ينقل أقدامه الزجاجية من حلم في هيبة البحر

إلى حلم في أبّهة النخيل

ذهبنا لشحذ أعضائنا بأسنانه

بصلافة صخوره وغدر نتوءاته

فيما هو منشغل بصقل شظاياه

مباهياً بهيبة مراثيه وبراثنه الباسلة

رعاياه

نزن به أحلامنا كأنه معدن الوقت

يكنز نعمته في غيوم غامضة

مبذولة لترف المكائد

تتماهى في خلاعة الأشكال وتشفُّ عن الماء اليابس

قمصاننا تشيع الفتنة لجسدين في لذة السفر

نغفل عن خيوطها المشاعة فنخسر قناديل الطريق

مثل نجوم مدلاّة في تجاعيد الوحشة

تظن أنها السماء.

جبلٌ يخبُّ في جبّته الموشاة بأحداق ثملة

وأهداب فَضَّة

ترصد رعيةً في وحشة السفوح

نحن رعاياه المستوحشون

تنالنا جهامة الليل.

شعبٌ يستفرد به حجرٌ كئيبٌ محمول على المناكب

غاباته مكتظة بيقظة الحواس

تزعم أنها ثمالة حنيننا الموصول بعدالة المطر

ما إن نغفل حتى تغدر الشباكُ بشعبٍ يشطّ

يرشده أدلاّءُ يعرّيهم الجبل بكمائنه

ويفضح خطواتهم بالكواسر

ما إن نغفل حتى تطيش جمرة الغابة

لفرط النطرة وضغائن الفصول

رعايا نحن نعقُّ عن هيبة الجبل

ونزخرف جسده بمرايا مشروخة

تفضح خرقاً مزقتها مواكب الجنازات

واندلاع النيازك اليائسة

رعايا نرفع أسمالنا رايةً في طليعة النص

فتخرُّ الخرائطُ مهتوكة بصراحة الكذب.

كان بودي أن أطيل غير أني والعارف أنك تقرأ وتعرف الشعر حقيقة ارتأيت أن أقف هنا وأترك لك الخيار في أن تتصفح تاريخ الشعر وتنظر في جوهره ذلك القدر الهائل مما يشير إلى ما في الشعرمن «السياسة» أو أنك تقف هنا.

ختاماً أتركك مع هذه الأبيات لكاتب هذه العجالة:

حرٌ أنا، وكل الناس أحرارُ

والأمر ليس سرٌ من الأسرار

حرٌ أنا، وسلاح حريتي العقل

والحكمة وبحرٌ من الأحبار

حرٌ أنا، ورمز حريتي الشمس

والشعلة الوضاءة وعالي الأقمار

حرٌ أنا، والحرية رمز عقيدتي

وشعارها فيض عظيم من الأقمار

حرٌ أنا، والوجود طريق فيه

أحقق طموح أحلامي الأبكار

حرٌ أنا، ولا لون يقيد عقلي

أو يكبل صولة شرر الأفكار

حرٌ أنا، وعوالمي خلق وغناء

وعزف لحن دائم الأسحار

حرٌ أنا، والعلى الواسع فضاء

أحلق فيه كما الطير في الأسفار

حرٌ أنا، وظلام الليل عندي

تنيره كواكب وضاءة أبدار

حرٌ أنا، وكل الناس أحرارُ

والحرية يعقلها الأحرار لا الفجار

العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً