ابتسامة عريضة جداً، وعلامة نصر (V) يرفعها دائماً رغم المرارات المتلاحقة، و«التدفيش» الذي كان يتعرض له، ويختتم كلامه دائماً: «و... يا جبل ما يهزك ريح».
الكتابة عن عرفات وهو حي صعبة جداً، نظراً لتشابك الظروف وتعقدها بين محب ومبغض، ناقد وناقم، والكتابة بعد موته ستكون أصعب رأفة بما سيأتي.
يعيدنا عرفات إلى السؤال الأبدي: ألا يستحق الرموز بعض الراحة؟ ألا تكفي السنون الخمسون مذ خاض حرب السويس حتى قاد حرب الكرامة حين جبنت جيوش عربية جرارة، مخترقاً حلكة المخيمات، متمنطقاً مسدسه العتيق، محاطاً بـ «الزلمات» أينما كان، يتنفس التهديد في كل ساعة، وينتظر الموت كل لحظة؟
غامض ظل لا يعرف عنه الكثير، مكان ولادته غامض ولايزال، مكان وفاته صار واضحاً، راوغ الموت مرات، راوغه في الطرقات والخنادق ومن وراء المتاريس، حتى في غيبوبته كان يغمز للموت أن «خدعتك»، حيّر شانئه وعدوه ومحبه وصديقه، مات أم لم يمت، غاب عن الوعي ولكن قلبه فلسطين، ورحل وبقيت القضية التي أشعلها.
رآه من رآه في بيروت الحصار يأخذ غفوة على دكة خشبية والغبار يعلوه، رآه من رآه وراء متاريس الرمال يضغط الزناد في اتجاه واحد لا يحيد، رآه من رآه في مقره المحاصر وقد وضع مسدسه أمامه ترقباً للأسوأ، رآه من رآه يطيب إبريق الشاي للرفاق في ليال لا ملجأ فيها من الصقيع إلا حرارة البارود.
تقاذفته السياسات العربية، وكان مضطراً لكي يصدقها بحذر، فوراءه أيتام وأرامل وأطفال يريدون كتباً ومدارس وثيابا للعيد، وراءه منظمة وجبهات داخلية وخارجية ومناوئون وخصوم ومحبون... من خندق النضال كان يقفز إلى خندق السياسة ودهاليزها... نجح في الاثنين، ورسب فيهما أيضاً.
عرفات الذي حمل القضية أربعين عاماً ما كان عليه أن يحمل على أحد من الزعماء العرب، فليس من حقه أن يخذل شعبه فيهم، ذات يوم أسرّ «كنا في الماضي نبحث عن أكثر الزعماء نظافة... اليوم نبحث عن أقلهم قذارة»، قادته الآمال إلى المهاوي أحياناً في سبيل البحث عمن يسد خانات صناديق الشهداء والأرامل والمخيمات والسلاح والتدريب، وكانوا يمنون عليه بالفتات ويستخدمونها للتطبيل الأجوف لتستريح ضمائرهم بأنهم ناصروا القضية، ولكن «الكضية» لدى أبوعمار كانت مختلفة، فعيناه على القدس التي أهدروها، وعلى فلسطين التي ضيعوها، وعلى قميص شهيد تضرج بالدماء خبأته زوجته لطفلها كي يشمّه فتسري في عروقه السكاكين، كانت عيناه على المخيم، وكان يعلم، أن لو لم يكن لضاعت فلسطين القضية، ولأصبحت لهواً تاريخياً كما كانت الأندلس، وكما ضاعت ديار كثيرة... فوقع بنضاله بطاقة هوية «شعب الجبارين» الذي كان هو آخر وصاياه عندما ركب الطائرة إلى باريس، وأبقى جذوة النضال مشتعلة... آخر من تمسك بالكوفية الفلسطينية السوداء، وأول من جعل منها رمزاً أغاظ بها عدوه وصاغ منها خيوطاً نسجت قلوب محبي أرض الزيتون في كل الدنيا... وأغلق وراءه الباب كآخر مناضل كاريزمي من الطراز القديم.
وتد الخيمة كان فوهة «البارودة» وكوفية الشعب بشكلها الفلسطيني الخريطة، نهارات الوجع ودبكات ترقص لزغردة الرصاص، رحلة طويلة لحصاد قليل، ووجوه بيضاء كالقراطيس لا تميز منهم أحداً، و«زيتونات» تنز ألماً للرحيل، وقدس تترقب جوامعها وكنائسها وعد زعيمها ليتحقق
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ