كثيراً ما أثار الرئيس عرفات الأسئلة في علاقاته العربية، والأمر في هذا لا يتصل بموضوع ولادته التي قيل انها كانت في القاهرة، والتي يقول انها كانت في القدس، ولا في لهجته المصرية المطعمة باللهجة الفلسطينية، ولا في صلاته السورية، التي كثيراً ما لعبت دوراً مهماً، ليس في حياته الشخصية، بل أيضاً في سيرته السياسية، التي كادت تتطابق مع سير القضية الفلسطينية طوال الأربعة عقود الأخيرة من السنوات.
الرئيس عرفات في التباس علاقاته العربية، كان تعبيراً عن التباسات القضية الفلسطينية بمحيطها العربي، وهي القضية التي كانت عربية دائماً، وستظل كذلك، وبهذا المعنى فقد كان عرفات عربياً بمقدار ما كان فلسطينياً، لكن موقعه وعلاقاته داخل الإطار العربي كان فيها كثير من التمايزات، التي ارتبطت بتفاصيل ومعطيات ميزت علاقات عرفات، كما القضية الفلسطينية بالعرب وبلدانهم.
ولعل بين تمايزات عرفات، انها جعلت منه سورياً بقدر قريب مما كان فلسطينياً، وهو امر بدا واضحاً في سيرته وفي مواقفه. ومنذ بداية توجه عرفات ورفاقه لاقامة حركة فتح، كانت سورية المحطة الأولى التي توجهت إليها أنظار عرفات، إذ أقيمت العلاقات الأولى لفتح، وبنيت القاعدة الأولى للحركة في منطقة المهمة القريبة من دمشق، ثم تطور الأمر بين فتح بقيادة عرفات وسورية، لتأخذ سورية دوراً مؤثراً في دخول فتح إلى «المجلس الوطني الفلسطيني» الذي تأسس كبرلمان للفلسطينيين في المنفى العام 1965، خرجت من إطاره منظمة التحرير الفلسطينية، والتي سرعان ما ساعد السوريون عرفات في الوصول الى قيادتها بعد حرب العام 1967 وما رافقها من صعود فلسطيني، كانت سورية إحدى محطاته العربية البارزة، وهذه بين عوامل، جعلت من عرفات رجلاً سورياً له أهداف فلسطينية، وجعلت من حركة فتح التي يتزعمها «حركة سورية» لها توجهات وأهداف فلسطينية.
غير ان سورية عرفات وحركة فتح منظوراً إليها من الجانب السوري، لم تكن تريح سياسة دمشق في بعدها الفلسطيني، الأمر الذي جعلها ترسم سيرها الفلسطيني في اتجاهين اساسيين، أولهما التأسيس لكيانات سورية في الخريطة الفلسطينية الآخذة في التبلور مع مطلع الستينات، والثاني دعم التكوينات الفلسطينية الناهضة التي كانت فتح أهمها، على أن تبقى هذه التكوينات والجماعات الفلسطينية تحت اليد السورية امنياً وسياسياً. وفي سياق الاتجاه الأول، جاءت ولادة جبهة التحرير الفلسطينية في دمشق تحت إشراف الجيش السوري العام 1964، ثم جاءت ولادة قوات التحرير الشعبية «الصاعقة» من إطار حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم في دمشق العام 1968 بالتزامن مع استمرار التعامل السوري الحذر سياسياً وأمنياً مع الجماعات الفلسطينية وخصوصاً حركة فتح بما يبقيها في إطار السيطرة ضمن الأراضي السورية على الأقل.
لقد حكمت النظرة السورية إلى عرفات وحركة فتح حدود علاقتهما مع سورية، وكانت بصورة دائمة القوة المؤثرة في العلاقات السورية الفلسطينية، على رغم الحاجات الموضوعية والذاتية التي كثيراً ما دفعت الطرفين إلى علاقات أقوى حكمتها تطورات إقليمية ودولية، توالت على المنطقة منذ مطلع ستينات القرن الماضي.
لقد وقفت سورية مع عرفات والفلسطينيين خلال حوادث الأردن 1970 إلى 1971، وكان لها الموقف ذاته خلال الأزمات المتتالية في لبنان اعتباراً من العام 1968 الذي سجل بداية تبلور الوجود الفلسطيني المسلح هناك، كما وقفت سورية إلى جانب منظمة التحرير بزعامة عرفات في معركة الحصول على شرعية ووحدانية التمثيل الفلسطيني في مؤتمري القمة العربية اللذين اعقبا حرب العام 1973، وكان ذلك تكريساً لقرار سوري، صارت بموجبه دمشق المقر الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها عرفات بعد خروج الفلسطينيين من الأردن، خلافاً لما شاع فهمه، وهو ان بيروت في السبعينات، كانت مقر منظمة التحرير الفلسطينية، وكلها بين مؤشرات التقارب السوري - الفلسطيني الذي شهد في مرحلة لاحقة توجه سورية وحركة فتح برئاسة عرفات الى بناء تحالف استراتيجي، لم يقيض له النجاح بعد جولات من الحوار والنقاش.
وكانت التطورات الدراماتيكية في لبنان العام 1975، التي فتحت بوابات حرب أهلية، مرحلة سوداء في العلاقات السورية - الفلسطينية، إذ دخلها الفلسطينيون طرفاً، ثم تبعهم السوريون طرفاً في موقع آخر، وهي حال كشفت افتراقات أخذت تميز علاقات الطرفين السوري والفلسطيني بدفعهما نحو تجاذبات جديدة، فشددت سورية نحو أحكام قبضتها على الفلسطينيين لوضعهم في السلة السورية، فيما راح الفلسطينيون بقيادة عرفات نحو مصر والعراق والأردن الذين كانت علاقاتهم متوترة مع دمشق لأسباب مختلفة ومعقدة.
غير ان الافتراق الأكبر في هذا الاتجاه جاء في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وعلى رغم التشارك الفلسطيني - السوري في الحرب ضد قوات الاجتياح، فقد رفض عرفات التوجه إلى سورية خلافاً لقرار معظم القادة الفلسطينيين الذي خرجوا مع قواتهم من لبنان في محاولة للتخلص من تأثيرات دمشق على خطواته اللاحقة، وهذه مهدت لأمرين: أولهما الخروج العلني للخلافات بين عرفات وسورية إلى السطح، والثاني محاولة سورية إطاحة عرفات من سدة القيادة الفلسطينية، وهو ما تجلى واضحاً في دعم تمرد مجموعات من فتح بقيادة أبوموسى في سورية ولبنان ضد عرفات وقيادته في مايو/ أيار 1983، وإلحاقها بخطوة طرد عرفات من دمشق في يونيو/ حزيران من العام ذاته، ثم في دعم هجوم عسكري لتحالف فلسطيني بقيادة أحمد جبريل على قوات عرفات وحلفائه في طرابلس ومخيمات شمال لبنان نهاية العام 1983، وكانت جميعها خطوات لانفصال عرفات عن بعده السوري، وتكريس دخوله في بعد مصري - أردني، لم يكن على توافق سياسي مع دمشق، ما ساعد عرفات في اندفاعات وسعت اختلافاته السياسية مع دمشق، وكان بين أهم تلك الاختلافات إلغاء الميثاق الوطني الفلسطيني العام 1989، ثم اتفاق أوسلو مع الإسرائيليين العام 1993، واتفاق غزة - أريحا 1995.
وعلى رغم ان عرفات عمل باستمرار على استعادة علاقاته مع سورية وفق صيغة تصريحه الشائع: «إذا طردوني من الباب سأعود من الشباك» بخطوات كان منها قيامه بتقديم واجب العزاء بوفاة الرئيس حافظ الأسد العام 2000، وإرساله موفدين لترتيب زيارة يقوم بها إلى دمشق، فإن تلك الجهود ذهبت سدى، وفشلت محاولة زيارته لدمشق العام 2001 في آخر لحظة لأسباب متداخلة ومعقدة.
لقد حملت السياسات السورية في الأعوام الأخيرة كثيراً من الالتباسات، تعلق جزء منها بالموقف من عرفات والتطورات الفلسطينية، لكن الاتجاه العام فيها اتخذ مساراً لتصحيح العلاقات السورية - الفلسطينية والمصالحة مع عرفات، وتقوى هذا الاتجاه مع تصاعد الدمار الإسرائيلي، والعداء الإسرائيلي - الأميركي لعرفات والفلسطينيين، وخصوصاً بعد ان فرض الإسرائيليون الحصار على عرفات في رام الله في العام 2001. وكان من تجليات التغيير في الموقف السوري إزاء عرفات تغييرات في الخطابين الدبلوماسي والإعلامي حياله، ودفع حلفاء دمشق من الجماعات الفلسطينية وقياداتها الى طي صفحة الماضي من علاقات الصراع مع عرفات وفتح بوابة جديدة للعلاقات لم يقيض لها بعد ان تتطور.
عرفات في الكثير من سيرته وحياته السياسية كان له بعد سوري، يستند إلى علاقة سورية بالقضية الفلسطينية، لكن الرجل قاوم باستمرار الاشتراطات السورية عليه سواء كانت اشتراطات سياسية أو أمنية، وهذا ما جعل هذا البعد يغيب أو يُغيّب في بعض المراحل من حياة عرفات السوري
العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ