العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ

بين النص العملي... والحكمة النظرية

الفكر العربي - الإسلامي بين العقل والنقل (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

على قياس الغزالي وفكره، ساهم الاجتهاد في تطوير الفكر الإسلامي من خلال إعادة قراءة النص وربطه بالعصر. فانتقل الفكر من عناصر ورؤى مفككة إلى مدارس فقهية وفلسفية مركبة من علوم متعارضة. فالاجتهاد دفع الفكر من حال التشرذم إلى التوحد المنهجي والمنظم. إلا أن علم الاجتهاد انقسم بدوره إلى مدارس متفرقة اتفقت على ضرورة التطوير واختلفت على أصوله. فالعلماء، وهم في هذا المعنى ورثة الأنبياء، قاموا بجهود ذهنية للتفسير والتأويل تمايزت في خطوطها العريضة وتفرعت في التفاصيل إلى أن تم التفاهم على وضع قواعد منهجية لضبط القراءات وتأصيل مصادرها.

وحتى لا يخضع الاجتهاد للأمزجة والأهواء تم ربط فروعه بالنص والسنة والإجماع وفق تسلسل منهجي يضبط إيقاع الأفكار ويضعها في سياقين: العلوم النظرية والعلوم العملية. فالأولى ترد على الحاجات الذهنية (التجريدية) والثانية تلبي الحاجات المادية (الواقعية).

وأدى التقسيم الفلسفي للعلوم إلى انقسام جمهور العلماء بين خاصة وعامة. فالخاصة عموماً كانت تميل إلى التجريد الذهني (العلوم النظرية) بينما العامة كانت أقرب إلى التحديد المطلبي (العلوم العملية).

وفي الحالين اتفق العلماء على ضرورة إنتاج أقيسة منهجية تستطيع استخراج القوانين (التشريعات) التي لها صلة بحاجات الناس الواقعية وأسئلتهم الملحة التي لها صلة بمعاشهم وحياتهم اليومية. فجاءت الأجوبة عصرية بمعنى أنها ترد على أسئلة راهنة تتصل بالبيئة وظروفها الاجتماعية والسياسية.

أدت الحاجات إلى تكوين نظريات فتراكمت الأفكار وتنوعت الأجوبة وتعددت المدارس وتفرعت إلى صيغ كلامية وفلسفية تجمع بين المنقول والمعقول أو بين الموروث والرأي. فكل فكرة قديمة/ جديدة وكل رأي جديد/ قديم. إلا أن مجموع تلك الاجتهادات قامت على فرعين كبيرين، الأول قاده العلماء فأنتجوا ما يسمى بفلسفة الفقه. والثاني قاده الفلاسفة فأنتجوا ما يسمى بفقه الفلسفة.

ودارت بين المجموعتين معارك كلامية ساهمت في نقل التفكير الإسلامي من البسيط إلى المركب وانتهت الحرب إلى تراجع الفلسفة المنحولة أو المنقولة (عن الإغريق وفارس والهند) وتقدم فلسفة الفقه التي تميّزت باستقلالها الفكري وتأسيسها لمناهج أصولية هي نتاج عقل الموروث ووعي المنقول.

والسؤال: لماذا تراجع الفكر المنقول أو المنحول لمصلحة نمو وعي فلسفي مستقل نجح في كسب المعركة على المستويين: العامة (العلم العملي) والخاصة (العلم النظري)؟

هناك كثير من الأجوبة وهي في مجموعها ليست دقيقة في قراءة تاريخ تطور الأفكار عند المسلمين. فهناك من نسب الهزيمة إلى انحياز السلطة وهذا غير دقيق، باعتبار أن الظلم الحقيقي وقع على العلماء والفقهاء أكثر بكثير من الفلاسفة. بل إن الأخيرين كانا أقرب إلى السلطة ولعبا أحياناً دور الجلاد أو الواشي.

وهناك من نسب التراجع إلى انقلاب الأشعري على المعتزلة، بينما الحقيقة أن تمزق المعتزلة إلى عشرات الفرق المتنازعة وصلة بعض فرقها بالسلطة (نهاية عهد هارون الرشيد والمأمون والمعتصم...)، وتنافر الاجتهادات وتراوحها بين كلامي وفلسفي وإلحادي كان له الدور الأساس في تلاشي المعتزلة وتبعثرها. وهناك من نسب هلاك الفلسفة في المشرق وانتقالها إلى المغرب إلى نقد الإمام الغزالي للفلسفة وقيامه بتفكيك عناصرها وكشف تناقضاتها، بينما الصحيح أن الغزالي يمثل خطوة تاريخية في تأسيس نزعة إسلامية فلسفية مستقلة عن الكتابات المنقولة والمنحولة. وكتاباته جاءت لاحقة على الحملة التي قادها ابن حزم الضاهري في الأندلس ضد الفرق والنحل إلى رفضه الخلط الذي حصل في أيامه بين الحقيقة ووسائط الوصول إليها.

فابن حزم سبق الغزالي في مشروعه النقدي (النظري - العملي) ومع ذلك لم تتوقف الأندلس عن إنتاج فلاسفتها (ابن باجة، ابن طفيل، وابن رشد). واستمرار الفلسفة في الأندلس يلغي نظرية «المؤامرة» عليها، كما يعطل فكرة ساذجة تربط انهيار منظومة كاملة بكتاب واحد (تهافت الفلاسفة). فإذا كان الفرد (الغزالي) له هذه القدرة على كسر تيار في المشرق فلماذا لم ينجح الفرد الآخر (ابن حزم) في كسره في الأندلس، علماً أن التأليف الفلسفي ازدهر في المغرب بعد كتابات ابن حزم وبعد انتقال كتب الغزالي إلى تلك الديار؟

إذاً، لابد من قراءة ثانية لمسألة انهيار منظومات فقهاء الفلسفة وتفوق منظومات فلاسفة الفقه عليها. وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى أصالة الفكر. فالفقه أكثر أصالة من الفلسفة المنقولة والمنحولة، معطوفاً عليها تفكك مصادر الفلسفة الإسلامية/ العربية وتوزعها على مراجع غير متفقة على البدء وفكرة الزمان والتطور والنهاية. ولعب تفكك المرجعية دوره في عزل الفلسفة وحصرها في دائرة العلم النظري وابتعادها عن العلم العملي، الأمر الذي جعل الخاصة (النخبة) في موقع التعارض مع العامة (الأهل) وحاجاتهم المعاصرة.

وساهم تفكك المرجعية والتجريد الذهني وإهمال الشئون العملية في زيادة تناقض مشروعات الفلاسفة وتعارضها، فانقسمت الفلسفة بين تيار يميل إلى فصل الحكمة عن الشريعة وتيار يميل إلى الربط بينهما. ووسع الانقسام من دائرة الخلل بين المنقول والمعقول، إذ كان الفلاسفة الناقلون لا ينتقدون المنقول ولا يحاولون عقله إلا قليلاً (محاولات الفارابي وابن سينا مثلاً) فاكتفوا بانتحال الأفكار وإعادة إنتاجها ضمن تصورات جاءت أحياناً متراجعة عن الأصل الإغريقي نفسه. إلا أن ابتعاد الفلاسفة عن حاجات الناس ومتطلباتهم يبقى هو العامل الأقوى في تلاشي أجوبتهم. فالأجوبة كانت مجرد تفكير ذهني مفتوح على كل الاحتمالات، بينما اتسمت مشرعات الفقهاء بالأفكار الواقعية العملية التي لا تتعارض مع العقل أو النص.

إلى العوامل البنيوية جاءت المواجهات السياسية والعسكرية في محيط العالم الإسلامي وداخله لتزيد من مأزق الفلاسفة وضياعهم الكلامي أو غيابهم عن ساحة الصراع. فالدولة كانت في لحظات احتدام صراع القوى بحاجة إلى مناظرات كلامية عملية تربط اللحظة التاريخية بالخوف على الوجود ومصيره المستقبلي.

ابن رشد مثلاً انتبه إلى أرسطو الفيلسوف ولم يلحظ أهمية أرسطو الأستاذ وصاحب المشروع السياسي الذي قاده اسكندر المقدوني وحاول نشره في محيطه الجغرافي معتمداً على الحملات العسكرية. فإهمال الجانب العملي أدى إلى التكرار من دون إبداع. فالفلاسفة استخدموا مناهج الفكر المنقول وأنتجوه في سياق حرص على الترويج والاستفزاز لا التفكير والبرهان. وترويج فكرة يخفف الجانب الإبداعي ويعطل العقل على النقد وإعادة التفكير.

وبرأي ابن خلدون أن الفارابي وابن سينا يتقدمان فلسفياً على ابن رشد. فالفارابي مثلاً أخذ جمهورية أفلاطون وأعاد إنتاجها بتعديلات وإضافات واختلافات أحياناً في كتابه «المدينة الفاضلة». بينما ابن رشد نقل أفلاطون وحذف منه وأضاف إليه بعض الأسئلة السياسية والاجتماعية في عصره للتدليل على صحة النظريات لا للقول إن الواقع بحاجة إلى تغيير أو إلى نظرية مغايرة.

إلى ذلك، أطاح ابن رشد بمشروعه النظري بسبب إهماله المسائل الواقعية واستعلائه على العلم العملي (باستثناء كتابه الفقهي: بداية المجتهد). فقاضي قرطبة اكتفى بالنقل الحرفي/ العقلي عن اليونان (والإغريق عموماً) وفي الآن عارض نصوص الأشعري والغزالي من موقع السلفي الذي يرفض التأويل والتفسير. فالخلل ليس في السلطة ولا في انتشار كتاب الغزالي (إحياء علوم الدين) في المغرب بل في مشروع ابن رشد نفسه. فهو من جهة يرفع أرسطو إلى مصاف الأنبياء ويحط من جهة أخرى من موقع العلماء والفقهاء بذريعة أن كثرة تأويلاتهم وتفسيراتهم أفسدت إيمان العامة. فأساس انهيار مشروع ابن رشد هو تناقض عقلانيته الأرسطوية مع سلفيته الإسلامية. حتى إن مشروع التوفيق بين الشريعة والحكمة الذي كتب عنه الكثير من الفلاسفة انتهى إلى الفشل نظراً إلى التبلد الذهني وقلة الاجتهاد في هذا الحقل. فالمشروع التوفيقي كان بحاجة إلى عقل توفيقي، كما يقول هيغل، ينقل العلم العملي إلى مستوى نظري ويربط النظري بالواقعي (الناس) لحماية المشروع من تفكك نصوصه وتلاشيه التاريخي. فاستمرار أي مشروع فكري (فلسفي - كلامي) يرتبط إلى حد كبير بحاجة الناس إليه وصلته بالواقع وقدرته على التكيف مع المتغيرات.

لعب فقهاء الفلسفة في التاريخ الإسلامي دور المحرك الذي يستفز فلاسفة الفقه ويثير اعتراضاتهم ومحاججاتهم الفكرية، إلا أنهم فشلوا في تأسيس نهج عملي ينقل مناهجهم النظرية من دائرة التجريد والعموميات إلى برنامج محسوس يتصل بواقع الناس وحاجاتهم.

وهنا بالضبط يكمن مصدر الخلل، وهو خلل زادت التطورات الدولية (بعد القرن الخامس عشر الميلادي) من ثغراته ومشكلاته وفواته الزمني/ الذهني.

(للبحث صلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 798 - الخميس 11 نوفمبر 2004م الموافق 28 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً