دعونا نتفق أولاً، على أن الخطوط الحمراء ليست حكراً على أحد، فمثلما للسلطات الحق في وضع خطوطها «الحمراء» التي لا ينبغي تجاوزها؛ وهي الثوابت التي يعرفها أصغر صحافي بحريني مبتدئ مثل: «عدم المساس بالذات الإلهية والأنبياء والصحابة وآل البيت، وبالذات الملكية بالطرق التي حدّدها الدستور»، فان للمجتمع ومؤسساته المدنية أيضاً خطوطاً «حمراء وصفراء وبرتقالية»، ينبغي احترامها فيما يتعلق بالحريات المكتسبة المتعارف عليها، وهي متفاوتة من بلد إلى آخر بحسب التطور الديمقراطي والانفتاح على الآخر، أو بحسب ارتفاع أم انخفاض سقف الحريات فيه؛ أي قد تكون خطوط صفراء عندنا، لكنها في بلد آخر «حمراء» تقطع فيها رؤوس، وهكذا.
وهناك دائماً مشهدان أو عدة مشاهد فيها: «غث وغيث ومغيث» - (الأولى بفتح الغين والثانية بكسرها، والثالثة بضم الميم) تطفو على السطح كلما مس اضطراب أطراف الحرية، فالقلة القليلة هي التي تخشى حرية التعبير: «غث»، والغالبية تدفع باتجاه تعميق وتوسيع وتعميم ونشر ثقافة الحريات: «غيث»؛ ولا يخشى الحريات إلا أولئك الذين بيوتهم من زجاج، أو الذين يخفون شيئاً ما غير سوي! أما المغيث، فذلك المؤمن بترسيخ الحريات وتطويرها في المجتمع كضرورة لعصرنة بلادنا وتحديثها بما يليق بوعي الناس وثقافتهم مقارنة بأقراننا في الدول الخليجية.
وفي ضوء ذلك، فإنّ الإصلاح الديمقراطي المنشود في البحرين لا ينبغي أن يعترضه مانع، ولا تعترضه أوضاع مضطربة طارئة، وتشريعات مناقضة لكل المكتسبات، وإن كانت بنوايا حسنة، فانه بالتالي قد يوصلنا إلى الارتداد عن هذه الإصلاحات، ثم إلى الوصول لطريق كريهة بفرض نهج انفرادي متنفذ له كلمة الفصل من دون وجه حق في تشريع عدد من القوانين المقيدة للحريات.
تدني الحريات أينما كان وفي أي مكان، لا يعطي الناس فرصة التعبير سلمياً عن رأيهم في القرارات ورؤيتهم في الخيارات، وشعوب البلدان المنضمة لهذا المعسكر تعاني مرارات جربناها من «الألف إلى الياء» وقدم شعبنا التضحيات الجسام لتجاوز هذه المرحلة السوداء، وعندما نرجع إلى الماضي الكريه في تلك الحقبة، فإن الحكومة ستكون أول الخاسرين، وسمعة مملكتنا، التي بدأت التقارير ترصدها؛ وآخرها التقرير السنوي الثالث لمنظمة «صحافيون بلا حدود» في 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2004 ، الذي أظهر «قفزات الردة» حين كان ترتيبنا في العام 2002 (67) من أصل 139 دولة، إلى أن وصل إلى 143 من أصل 167 دولة في تدني الحريات العامة استناداً إلى المادة 19 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
دعونا نتساءل، ونكثر من التساؤل عن أسباب هذا التراجع في تدني الحريات؛ فالرقم ليس بسيطاً، إلا عند نفر من السذج لا يفرقون بين «التسمم والتسميم»، أو «الغث والغيث» مثل إمبراطور اثيوبيا هيلاسيلاسي المقبور، الذي كان يعتقد بثقة إنه «يفهم مصلحة الشعب، أكثر من الشعب نفسه!»، ولنتساءل: لماذا يخرج علينا «بلدوزر» من قبة البرلمان، وباسم الشعب ليكنس «السيارات المختلفة» عن شوارع البحرين؟ ولماذا يشط كاتب «استزواغي» ليقارن بمفارقة عجيبة بين ما حدث بـ «السنابس» وما يجري في «الفلوجة» و«النجف» العراقيتين ليحرض المتربصين لنهوضنا الوليد على قمعه بإفراط من القوة، على رغم الإدانة الجماعية للغوغائية غير المسئولة لحرف المسار السلمي عن سكته تحت أية يافطة أو من أي مصدر، سواء كان كيدياً، أو من في داخله رغبة مكبوتة «تحن للماضي»، أو ذاك الذي يستكثر على الناس التعبير الحضاري المتميّز عن آرائهم في القرارات ورؤيتهم للخيارات العامة من دون خشية من السلطة وعنفها أو رعبها، الذي مارسته في السابق بجملة من السيئات التي تجاوزها الزمن؟!
تفاجأت بإعجاب عندما أعدت قراءة ملف عن «الحريات» في الشقيقة الكويت نشرته مجلة «الحدث» الكويتية في عددها مارس/ آذار سنة 2000، حين قام خمسة رؤساء تحرير مختلفون - نادراً ما اتفقوا على أمر - بتوقيع بيان مشترك ضد وزير الإعلام، وطالبوه بالاستقالة لأنه تعرض لحرية التعبير «بعدما قارب صدور قرار حكومي بالتعطيل الإداري وسحب الترخيص من دون أمر من القضاء الذي يعد مؤشراً على خطر حقيقي تتعرض له الصحافة في الكويت التي حملت عبر تاريخها الطويل راية الحرية ومشعل التنوير».
الخمسة الكبار «المختلفون، الذين مهروا بأسمائهم بيان الإدانة لوزارة الإعلام ووزيرها هم: رؤساء تحرير «الرأي العام» جاسم بودي، و«القبس» وليد النصف، و«الوطن» محمد عبدالقادر الجاسم، و«السياسة» أحمد الجارالله، وعن رئيس تحرير «الأنباء» شقيقها فواز خالد المرزوق. هؤلاء الخمسة المختلفون، اتفقوا على مبدأ واحد هو عدم المساس بحرية التعبير، بغض النظر إن كان القرار الحكومي يستهدف «الوطن» أو «الرأي العام»، وعلى رغم أن ظهور ملامح جميلة يحملها العالم عن الكويت التي كانت «عاصمة الثقافة للعام 2001م»، وخلاصة ما نود الاستفادة من هذا التقليد الكويتي الرائع في موضوع الحريات، والصحافة هو المحك لجميع الحريات، وأي انتهاك لها، كما يقول يحيى شقير: «هو المؤشر الأول على تشظي الحريات العامة»؛ فلماذا لا يمهر المختلفون في البحرين من جمعيات سياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنواب في المجلس الوطني وكل من تهمه قضايا الحريات على بيان تاريخي من هذا النوع حول القوانين المقيدة للحريات في البلاد ويطالون بإلغائها وباستقالة المشرعين لمثل هذه القوانين التي لا تتلاءم والعهد الجديد؟!
الكويتيون لعبوها صح ونجحوا، فهل يفعلها البحرينيون ليكون بيانهم «رمية لرامي ماهر؟»
العدد 797 - الأربعاء 10 نوفمبر 2004م الموافق 27 رمضان 1425هـ