تتركز الاضواء اليوم على موضوع العلاقات السورية - اللبنانية بفعل عاملين اولهما لبناني، والثاني دولي، يمثل الاول اعتراضات لبنانية على التأثيرات السورية في الوضع اللبناني عشية الاستحقاق الرئاسي، وارتبط الثاني بالتدخل الدولي في العلاقات السورية - اللبنانية، معبراً عنه في قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 الذي تم اقراره بجهود اساسية من الولايات المتحد وفرنسا، توحدت للتأثير في مجرى العلاقات السورية - اللبنانية وتنصيب المجتمع الدولي ممثلاً بمجلس الأمن قيماً على علاقات بلدين مستقلين من اعضاء الامم المتحدة.
في ظل هذين العاملين، تبدو العلاقات السورية - اللبنانية امام تحديات حقيقية، لا تستمد اهميتها من هذين العاملين فقط، وانما من ظروف اخرى بينها النظرة الرسمية السورية - اللبنانية الى علاقات البلدين، وما تمثله التجربة في علاقات البلدين خلال نحو ثلاثة عقود تواصلت منذ الدخول السوري العسكري الى لبنان العام 1975.
وتنطلق السلطتان السورية واللبنانية في نظرتهما الى علاقات البلدين من ارضية واحدة اساسها ضبابية العلاقات تحت شعارات لم يعد أكثرها يمثل قاعدة توافق او اتفاق في البلدين، وهو ما عبرت عنه مواقف سياسية لبنانية وسورية من موضوع التمديد للرئيس لحود، ومثلها وثيقة وقعها مثقفون لبنانيون وسوريون بشأن العلاقات السورية - اللبنانية.
وكما هو واضح، فإن الضبابية والشعاراتية في العلاقات السورية - اللبنانية، تستجيب لما تم بناؤه من علاقات بين النخبة الحاكمة في سورية ومثيلتها اللبنانية، ليس فقط بحكم الترابط المصلحي بين الجانبين في ابعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانما بفعل ميل النخبة اللبنانية للتماثل مع مثيلتها السورية في تعاملها مع المجتمع اللبناني أخذاً في الاعتبار بعضاً من ملامح الخصوصية اللبنانية، كما في موضوع التعدد الطائفي وفي موضوع «الطابع الديمقراطي» لنظام الحكم اللبناني.
والتطور العام لواقع النخبة اللبنانية الحاكمة، كان في الاهم منه نتيجة التدخل السوري، إذ ساعد الوجود السوري على تبدلات في واقع المجتمع اللبناني ونخبته وتعبيراتها السياسية، فزاد على نحو عام حجم المؤيدين لسورية، وتراجع حجم خصومها، وتجاوزت التبدلات، ذلك الى غياب وانحسار جماعات سياسية، اتصفت بمعارضة الدور السوري في لبنان لصالح الجماعات المؤيدة لسورية ووجودها، ولعل المثال الابرز في ذلك ينطبق على شيعة لبنان وكل من حركتي امل وحزب الله.
وتصعيد الحضور السوري في لبنان اقترن بعوامل مختلفة، ابرزها داخلي، يتصل بالصراعات والتوافقات بين اللبنانيين، وهو امر عبر عنه الدور السوري وصولاً الى اتفاق الطائف الذي ادى الى تطوير اسس جديدة للحياة اللبنانية بعدما جرته ظروف وتطورات الحرب الاهلية من تمزقات، جعلت اللبنانيين راغبين في الوصول الى توافقات تعيد بناء لحمة كيانهم السياسي.
والعامل الثاني في تصعيد الحضور السوري، استند الى موقف سوري عارض التدخلات الاسرائيلية في لبنان، ولاسيما احتلال اجزاء واسعة في العام 1982، وقد دعمت سورية بقوة مسيرة اللبنانيين ضد الاحتلال ومساعيهم إلى التخلص منه وصولاً الى مايو/ ايار العام 2000، وهذا اعطى فئات لبنانية واسعة حججاً قوية للدفاع عن الوجود السوري هناك. وخلافاً لعوامل تصعيد الحضور السوري، فقد صبت آليات ووسائل هذا الوجود في اتجاه آخر، بفعل اعتماد العامل الأمني في الحفاظ على الوجود السوري، تناقضاً مع حقيقة أن الخلفية الاساسية للوجود هناك كانت سياسية، وهذا رتب مستوى من رفض لبناني للتدخلات السورية في شئون لبنانية غالباً ما جرى القيام بها بواسطة الجهاز الأمني، على رغم أن السلطتين السورية واللبنانية حاولتا في فترة ما بعد الطائف اقامة اطر سياسية، تنظم العلاقة بين الجانبين بحسب معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق السورية - اللبنانية من خلال المجلس الاعلى وهيئة التنسيق العليا اللتين تضمان كبار المسئولين في الدولتين.
وتوافق التنازل او التراجع عن دور الاطار السياسي، مع تقصير آخر في استكمال انجاز ما نص عليه اتفاق الطائف من تفاصيل وبينها في المستوى الداخلي ازالة الصبغة الطائفية عن النظام اللبناني، وعلى مستوى العلاقة مع سورية، ترتيب مستقبل وجود القوات السورية في منطقة البقاع، وترافق كله مع ضعف شديد في تطوير علاقات تحتية بين السوريين واللبنانيين على الصعيد الشعبي وفي مستوى المصالح المباشرة.
واوصلت هذه التطورات علاقات البلدين لتصير موضع اعتراض واحتجاج سياسي وشعبي وخصوصاً بعد ربط هذه العلاقات بموضوع التمديد للرئيس لحود، واحتمال ربطها بالانتخابات النيابية القريبة في لبنان، وهذا سيزيد حجم المعارضة، ويعزز تيار المطالبين بتدخلات خارجية، تنسجم او تتطابق مع توجهات قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559 على رغم طابعه الانتدابي.
والسؤال الذي يطرح نفسه في مواجهة الواقع واحتمالاته، يكمن في كيفية رسم مسار لعلاقات جديدة، يخرجها مما صارت اليه، ويعيد ترتيبها في اتجاه بناء علاقات تليق ببلدين شقيقين وجارين ربطهما الماضي، ويربطهما المستقبل بهموم ومصالح مشتركة.
والاساس في مسار جديد لعلاقات سورية - لبنانية، يكمن في توفير ارادة سياسية لاصلاح خلفية علاقات البلدين، وهذا يعني الخروج من اطار التبعية اللبنانية للقرار السوري ومن التدخلات الامنية، ومن كون لبنان متنفساً للسياسات السورية، والانتقال الى اعتماد علاقات متساوية، تنظمها المؤسسات السياسية وفقا لمصالح البلدين المشتركة.
وتوفير الارادة السياسية لعلاقات جديدة، هو المسئولية الاولى لسورية، وهو امر لا يرتبط بوقائع قوة النفوذ السوري في لبنان فقط، بل يرتبط اساساً باعلان رغبة سورية في تغيير اساس علاقاتها مع لبنان، وايصال هذه الرغبة الى انصار سورية ومؤيديها قبل ايصالها الى المعترضين على وجودها هناك. أما الخطوة الثانية في مسار العلاقات الجديدة، فتكمن في تنفيذ سريع وعاجل لما تبقى من اتفاق الطائف من بنود مازالت حية، وتفعيل معاهدة الاخوة والتعاون والتنسيق والمؤسسات المشتركة، وتنفيذ الاتفاقات المعقودة بين البلدين وسط مستوى عال من الشفافية والعلنية، ودفع المستويات السياسية في البلدين لمتابعة مسئولياتها في تطوير العلاقات.
إن علاقات سورية ولبنان، اذا جرى تصويبها وتصحيح مسارها واخراجها من التباساتها، يمكن أن تكون نموذجاً ومثالاً لعلاقات بين البلدان العربية تساعدها في الخروج من مشكلاتها، وتعزز قدرتها على مواجهة التحديات المستقبلية، وقد باتت كثيرة
العدد 797 - الأربعاء 10 نوفمبر 2004م الموافق 27 رمضان 1425هـ