كلما تقادمت العمليات الانتخابية في الجمهورية الإسلامية (الرئاسية والبرلمانية والمجالس المحلية) تأصّلت معها أكثر سياسة حرق المرشحين من قِبَل الخصوم، وتلك ظاهرة أخذت في التصاعد لدرجة مُخيفة، وباتت تداعيات التباين السياسي كالثأر النائم الذي يستيقظ وفق تحيين دقيق ليُصيب الهدف بطلق ناري لا يُفضي إلاّ إلى قتله أو جعله كسيحاً.
إبّان انتخابات الرئاسة الأولى في 22 يناير/ كانون الثاني العام 1980 والتي جرت بين أحد عشر مُرشَحاً أبرزهم بني صدر وأحمد مدني وحسن حبيبي والشيخ صادق خلخالي وقطب زاده وجلال الدين فارسي ومسعود رجوي، عَمل أنصار الأخير على إسقاط مُرشّح الحزب الجمهوري والحوزة الدينية جلال الدين فارسي حين قاموا بجولات مكوكية بين أفغانستان وإيران بُغية استصدار ما يُثبت أن الرجل ذو أصول أفغانية، وهو ما يمنعه بالتالي - وفق الدستور الإيراني - من الترشّح للانتخابات. وقد استطاعوا بجهد خرافي الحصول على مسعاهم، وعندما طرح الشيخ الرفسنجاني (وكان حينها وزيراً للداخلية) الأمر على سماحة الإمام الراحل (قده) لم يستطع الأخير سوى الانحياز إلى الدستور والتضحية بمرشح الحركة الإسلامية.
وتكرّرت مثل هذه السلوكيات لاحقاً وفي انتخابات متفرقة أبرزها الحملة التي شُنَّت على الرئيس محمد خاتمي خلال انتخابات الرئاسة السابعة والتي حملته إلى قصر الرئاسة بشارع فلسطين. وعلى رغم أن شعبية الرجل الكبيرة سيّجته بقوة ضد أي حروق متوسطة أو بليغة لكيانه الأخلاقي أو السياسي فإنها أضرّت به على الأقل على المستوى الشخصي، وأجدني لا أنسى ما حدث في مسجد حوض لقمان بمدينة مشهد المقدسة (وهو نتاج طبيعي للجو المشحون الذي أفرزته الصحافة المحافظة المتطرفة والكرنفالات المناوئة) حين دخل أحد الكهول (وكان خاتمي حينها يهمّ بالحديث) وأمسك بالميكرفون وصاح ببراءة: «أنا أبٌ لشهيد ولمعوّق! أنا رأيت لهذا (خاتمي) نحو عشرين بوستراً دعائياً وقد قال في واحد منها بهدف استغلال أمثالي من عوائل الشهداء المساكين، إن المرشد هو الذي سمح له بالمجيء إلى هنا (رئاسة الجمهورية). إن في عهد وزارته كانت تصدر صحف معادية إلى علي بن أبي طالب (ع)، وعندما اعترض عليه قال: نحن منحنا الحرية لهؤلاء وأنتم أيضاً نسمح لكم بالكتابة ضدهم... كلا لا تسمح، سأصرخ حتى تتمزق حنجرتي في سبيل الثورة وفي سبيل خامنئي. لماذا يدعمك الطلبة غير السائرين على نهج الإمام ولا يدعمك الناس الصالحون؟». تلك الحادثة من ضمن حوادث عدة شكّلت هجمة غير عادية على مُرشّح اليسار الديني الراديكالي العائد بأدبيات سياسية غير معتادة (على رغم ما أعتقده من أن الكثير من أدبيات وسلوكيات حملة خاتمي الانتخابية كانت استفزازية للوضع الاجتماعي والسياسي). والغريب أن تلك الحملة بالذات التي شُنَّت على خاتمي قد تورّط فيها أناس كثيرون بينهم شخصيات لامعة في العمل السياسي.
كانت قضية خاتمي في الانتخابات حرجة جداً، حَدَت بأن يُصرّح الإمام الخامنئي بتصريحات مباشرة وحادة لإيقافها وتجفيف منابعها، إلاّ أنها تكررت مرة أخرى في انتخابات المجلس النيابي السادس عندما وُظِّفَت الآلة الإعلامية للإصلاحيين المتطرفين وتحديداً جبهة المشاركة لتهشيم وتحطيم شخصية هاشمي رفسنجاني ومن ثم تشكيله وإبرازه بالشخص «الكارثة» الذي جَلَبَ المتاعب والصِعاب لإيران وخصوصاً في المجال الاقتصادي! على رغم أن أطيافاً كثيرة في جبهة الثاني من خرداد عادت وترحمت عليه بعد فترة وتحديداً بعد أزمة الأهليّة إبّان انتخابات النيابة السابعة.
الواضح من كل ذلك أن الساحة الإيرانية تعيش حالاً من عدم اللياقة في هذه الحيثية على رغم أن الجمهورية الإسلامية شهدت أكثر من خمسة وعشرين عملية انتخابية منذ بداية الثورة وإلى الآن، فما الذي يجعل الأمور تصل إلى هذا الحد من عمليات التنافس السياسي والانتخابي غير المنضبط؟ وهو ما يُمكن أن نوجز رده في النقاط الآتية:
1- إن حِدة التنافس والاستقطاب والتشظي بين الأحزاب والتيارات السياسية جعلت من ثقافة التسقيط ديدناً ونهجاً يُتّبع بغير عيب في إدارة الصراع، وهو منحنى خطير سيؤثر على طبيعة التعاطي بين النخب، خصوصاً وأن السواد الأعظم في القيادات الحزبية الإيرانية تتسم بالتديّن والالتزام إذا ما تذكرنا مجالس الشورى المركزية لروحانية وروحانيون مبارز وأتباع خط الإمام وغيرها من الكُتل، وهو ما قد يُفقدها الكثير من الصِدقية بين الناخب الإيراني الذي بات متيقناً بأن الفرقاء هم شركاء ممانعون يريد كل واحد منهم أن يحصل على كل شيء ولا يترك لغيره بعده كثيراً أو قليلاً من نصيب.
2- يعكس ذلك السلوك حال التناقض والازدواجية التي تعيشها بعض جوانب الديمقراطية الإيرانية، فعلى رغم حال الحِراك السياسي الموجود وتعدد العمليات الانتخابية، ودور الصحافة المحوري في تسيير دولاب السياسة وتزييتها إلاّ أن الفارق بين الوضع الصحي (الطبيعي) الناتج عن ذلك وبين الممارسة الحقيقية لايزال كبيراً ويعيش حالاً من عدم الاتساق، وهذا ما يعيد إلى الأذهان قضية التنشئة السياسية والفكرية للأجيال وضرورة صوغها وفق منظومة اصلب وامنع من أن تُترك لأرقام وإحصاءات قد لا تكون مُفضية بالضرورة إلى أنساق ديمقراطية فاعلة ورشيقة القوام أو قادرة على تشكيل قيم يتمثلها المجتمع وينظر إليها على أنها ضرورة من ضرورات العيش والحياة اليومية.
3- يبدو أن الطبيعة الحزبية في إيران (وعلى رغم التطور الذي عاشته وتعيشه بحكم الممارسة) قد تحولت إلى ما يشبه العقيدة التي لا يُنظر إليها إلاّ من منظار المُقدّس الذي يستأهل السلطة والقيادة المجتمعية وبالتالي إدارة الدولة، وهو ما قد نتشبه به لدى المُغالين والمتطرفين في جناحي الصراع (اليمين واليسار)، فالأول يرى نفسه قَيِّماً على البلاد والعباد وهو أحق من غيره بالسلطة، والثاني ومن منطلق استهجانه للأول يرى بأن الخلاص يكمن في مشروعاته وسياساته وعصره الفيكتوري وهو ما حوّله إلى نرجسية خطيرة لا تقل خطراً عن الأول.
إن أهم تأثير مباشر يُمكن رصده نتيجة تلك السلوكيات هو عزوف التيارات السياسية عن طرح خياراتها الانتخابية في مدد أبكر، بغية الحفاظ على تلك الخيارات وعدم تعرضها للتشويه والإقصاء، بل وصل الحد ببعضها لأن يُؤجل ذلك للوقت ما بعد الضائع ولآخر أيام التسجيل القانونية التي يفرضها قانون الانتخابات، فعلى رغم أن موعد انتخابات الرئاسة التاسعة لم يبق على موعدها الكثير فإننا لم نر ولحد الآن أن بادرت الأحزاب لطرح مرشحيها أو حتى بادر المستقلون من المترشحين في طرح شخوصهم، وما الهمهمات التي يجري تداولها عبر الصحافة والمجالس الخاصة إلاّ بالونات اختبار وجس نبض للساحة ومدى السخونة التي تعتريها وما يُتَضَوَّع منها من روائح تعطي مؤشرات لمسارات معينة يُمكن التأسيس عليها.
إن أهم ما يجب أن تفكر فيه النخب السياسية الإيرانية عند أية عملية انتخابية هو ألا تنظر إلى القضايا بذاتية مُفرطة وأنها صاحبة فضل على المواطن الإيراني ببرامجها أو خططها، أو أنها صاحبة الوحي للكثير من أمور الناس وطرق حلحلتها، وكما قال الإمام الخامنئي قبل عدة أيام في جمعٍ من الطلبة الجامعيين والتنظيمات الطلابية: «لا يُمكن لأحد أن يعتبر نفسه صاحب منّة أو فضل على الشعب»
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 796 - الثلثاء 09 نوفمبر 2004م الموافق 26 رمضان 1425هـ