السياسي البريطاني «وينستون تشرتشل» Winston Churchill يعتز به البريطانيون كثيراً، وهذا الاعتزاز له عدة أسباب. مع نهايات القرن التاسع عشر، كان هذا الرجل يخدم في الجيش البريطاني، وانتخب عضوا في مجلس العموم عن حزب المحافظين في 1900 وكانت أجندته مخالفة لسياسة حزبه، اذ كان يدعو الى تقليل النفقات العسكرية وتوجيهها إلى القضايا التنموية الأخرى، واحتجاجا على حزبه انتقل الى حزب الأحرار. وفي العامين 1937 - 1938اتخذت بريطانيا موقفا «حميما» من هتلر وحاولت «ارضاء» المانيا على حساب حقوق الشعوب الأوروبية الأخرى، فانبرى تشرتشل محذرا ومعارضا، واثبت ان رأيه صحيحا عندما بدأت المانيا تحتل الدول وأشعلت الحرب العالمية الثانية. وهذا أدى لاستقالة الحكومة البريطانية المسئولة عن سياسة «ارضاء هتلر» وتسلم تشرتشل رئاسة الوزراء بعد ان حصل على موافقة غالبية الاعضاء من كل الأحزاب وكون وزارة ائتلافية.
كانت ألمانيا على وشك احتلال معظم أوروبا وحتى غزو بريطانيا (إذ كانت تنتظر اكتمال تسهيلات العبور البحري والاستعدادات الأخرى)، ولكن تشرتشل - بحكمته - أقام حلفا استراتيجياً مع أميركا (لايزال مستمرا حتى الآن) وأدار الحرب التي انتهت بهزيمة ألمانيا. تشرتشل تسلم رئاسة الوزراء مرتين، مابين 1940 و 1945 وثم ما بين 1951 و1955، وفي العام 1953 حصل على جائزة نوبل للآداب (من ضمن انتاجاته الأدبية موسوعة تاريخية مكونة من ستة أجزاء عن الحرب العالمية الثانية).
هناك انجاز آخر لتشرتشل ذكره بنفسه في احدى كلماته، إذ قال انه لم يغلق البرلمان ولم يعطل الحريات العامة حتى في أحلك سنوات الحرب مع هتلر، وهذا هو أكبر انجاز لبريطانيا التي استطاعت ان تنقذ نفسها من دمار محدق آنذاك وخرجت مرة أخرى الى لعب دورها، ولو بحجم آخر، مع ظهور قوة أميركا.
النقطة الجوهرية هي في الفرق بين «هتلر» و«تشرتشل» تكمن في ان هتلر ألغى الديمقراطية الألمانية (حل البرلمان، وغير الدستور، وركز السلطات في يده، وحشد الجماهير ضد معارضيه)، بينما تشرتشل لم يلغي الديمقراطية البريطانية، وفي الاخير انهزم هتلر على رغم تطوره التقني والعسكري، بينما انتصرت بريطانيا واستعادت جزءا كبيرا من هيبتها من دون ان تلغي الحريات العامة لشعبها.
ونحن نمر في فترة عصيبة هذه الايام، مع مزايدات من بعض الاطراف المتشنجة (من الجانبين الرسمي والأهلي) فاننا فعلاً نحتاج إلى من يتصرف كما تصرف تشرتشل وليس إلى اساليب «البلدوزر» وقمع الحريات واصدار القوانين التي تقتل كل شيء «فعلي» تحقق لنا خلال السنوات القليلة الماضية.
نعم بإمكان الحكومة ان تصدر القوانين التي تود اصدارها من خلال برلمان يتشكل من مناصرين للحكومة ومنصاعين اليها في كل ماتشاء (ما عدا القلة القليلة)... بامكان الحكومة ان تعطل كل مقترحات القوانين الحسنة (مثل ما فعلت خلال العامين الماضيين) وتزيد بذلك احباط الناس وتوفر وقوداً لمن يود ان يحشد ضدها... ولكن ماذا ستستفيد بعد ان تفعل كل ذلك؟ فهل استفادت من سنوات قانون «أمن الدولة» شيئا لكي تعود اليها؟
السؤال ايضا الى بعض الفئات (التي تشكل أقل من 10 في المئة من الشارع المتحرك): ماذا تستفيدون من تأجيج الوضع الى هذه الدرجة؟ وماذا تريدون اثباته من خلال لغة التصعيد والدعوة الى الاصطدام؟
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 796 - الثلثاء 09 نوفمبر 2004م الموافق 26 رمضان 1425هـ