نكره تلك الأيام، بحقٍ نكرهها ونكره فيها قانون أمن الدولة «حيث دخول المرء للمرحاض يحتاج إلى قرار والشمس كي تطلع تحتاج إلى قرار والديك كي يصيح يحتاج إلى قرار ورغبة الزوجين في الإنجاب تحتاج إلى قرار»، يكمل نزار قصيدته قائلاً: «هل تعرفون من أنا؟ مواطن يخاف أن يجلس في المقهى لكي لا تطلع الدولة من غياهب الفنجان، مواطن يخاف أن يقرب زوجته، قبيل أن تراقب المباحث المكان، مواطن أخاف أن أدخل أي مسجد كي لا يقال إني رجل يمارس الإيمان، كيلا يقول المخبر السري: إني كنت أتلو سورة الرحمن، الله.. يا زمان»، «يا أصدقائي.. إنني مواطن يسكن في مدينة ليس بها سكان، ليس لها شوارع ليس لها أرصفة، ليس لها نوافذ، ليس لها جدران. عنوان؟ أخاف أن أبوح بالعنوان، كل الذي أعرفه أن الذي يقوده الحفا إلى مدينتي، يرحمه الرحمن».
هكذا كنا في السابق، المباحث تلاحقك في كل مكان والمخبر السري يفتش مكتبتك ويخرج إليك من فنجان قهوتك، وإذا جئنا إلى المطار من الخارج نتوجس خيفة ثم نُطرد. ننظر إلى نخيل المحرق من بعيد ثم نوضع في الطائرة على طريقة عبدالله أوجلان ثم تتلقفنا مطارات العالم. ومن يقوده الحظ يستقر في مكان ومنا من أصبحوا كالقبائل لا مكان يأويهم وكل مطار يلقي بهم إلى الآخر... هكذا كانت ضريبة النضال الوطني ولا أسف... اليوم، نحن في الوطن نعيش بين جدرانه، تغيّر الوضع نسبياً والعالم كله في تغيّر فلنستغل هامش الحرية ولنطالب بالحقوق بأسلوب متوازن، نركز على الإيجابيات ونعمل على تغيير السلبيات.
لهذا، أقول للحكومة: إن قانون التجمعات العامة لن يخدم البحرين، دعونا نجلس لنرتب الوضع الداخلي، فلبقاء الديمقراطية إعطاء مزيد من الديمقراطية، فلنوزع الخبز بأسلوب سليم، فمازالت الكعكة لا توزع بأسلوب حكيم، وأضرب لكم مثالاً، هناك في المؤسسات من وصلوا إلى مرحلة التقاعد وبلغ تقاعدهم مبلغاً خيالياً، ثم ينقلون من وزارة إلى أخرى، وبعد الوزارة وزارة وهكذا، وقد طعنوا في العمر. أليس بوسعكم أن تقوموا بإحلال البحرينيين مكانهم وبعضهم أجانب؟
بعض المدارس الخاصة مليئة بالأجانب في أعمال إدارية وبعضها في مجال التدريس. أليس بالإمكان إحلال البحرينيين في هذه المواقع؟ وزارة أخرى قبل أسبوع تقريباً وظفت أجانب في أعمال تتعلق بالكمبيوتر، في حين درج الوزارة يكاد ينفجر من أوراق الباحثين عن عمل.
المشروع الإصلاحي وفر على الدولة آلاف الدنانير بالاستقرار السياسي الذي حدث طيلة السنوات الثلاث، والتي كانت تخصص لبناء أجهزة القمع، والآن أصبح الناس كلهم يرفضون العنف، والأخطاء إن حدثت يجب أن تؤخذ بحجمها الطبيعي. نحن لا نحتاج إلى أجهزة أمنية بحجم الديناصورات ولا إلى قوانين تقيد الحرية، لكن في المقابل يجب أن ندفع الناس نحو التوازن وكي نزيل الإحباط يجب أن نوقف التمييز وليشعر دعاة التوازن من النخب والعلماء أن صوت الاعتدال له من يسمعه. على السلطة أن تراجع بعض أدائها، وكذلك قوى المجتمع المدني وخطاب بعض مراكز القوى بحاجة إلى مراجعة.
النقد البنّاء أسلوب حضاري... حتى أطفالنا يجب أن نعلمهم على نقد بعضهم بعضاً. يقترح الفيلسوف البريطاني برنزاند راسل طريقة مثيرة لتعليم الأطفال، وهي عرض أشد الآراء تضارباً على وعيهم من أجل ثلاثة أمور: «تخليصهم من الايديولوجيات الصارمة، وتحصينهم ضد البلاغة والمحسنات اللفظية (الحديث في المنطق)، وأخيراً بناء العقل النقدي». وهذا الأسلوب يستخدم الآن حتى في القضايا السياسية، وهذا ما دعا إليه السيدحسن نصرالله في كتابه «خطاب عاشوراء» إذ دعا مضموناً إلى عدم التورط في الاختزال اللفظي والمحسنات في قراءة الواقع السياسي المعقّد، فالواقع السياسي توجد فيه مراكز قوى سياسية ومراكز قوى اجتماعية ودينية وثقافية وأطياف مختلفة، وأناس متنوعون؛ تجار وفلاحون، وطوائف وايديولوجيات مختلفة، وتحالفات ومصالح متنوعة ومعقدة ومحاط بدول داخلة في التعقيد السياسي والاقتصادي واقعة ضمن تعقيد إقليمي هو الآخر واقع ضمن تعقيد دولي متشابك المصالح ومتداخل في الأجندات مع تعقيد ثقافي وتاريخ متداخل، كل هذه الأحزمة لا تعامل بشعارات في المطلق. يجب أن تؤخذ بالحسبان في كل مشروع، في كل حركة، في كل موقف.
الأمور ليست بهذه البساطة، ويجب أن نعرف أن العالم تغير كثيراً بعد 11 سبتمبر/ أيلول. تداعيات العراق لها دور، موت عرفات سيضفي تعقيدات في «الشرق الأوسط»، هرولة الدول العربية إلى أميركا، هرولة القذافي نحو الغرب، وهكذا. السؤال: ما الذي دفع الحركة الإسلامية في الأردن إلى المشاركة بعد المقاطعة؟ ما الذي جعل حماس والجهاد أن يفكروا في الدخول والمشاركة في الانتخابات الفلسطينية والتعاطي مع السلطة بشكل مختلف على رغم أن السلطة الفلسطينية مازالت على موقفها من اتفاق أوسلو؟ ما الذي دفع حزب الله إلى المشاركة في مجلس النواب اللبناني بعد سنين من رفع شعار «إقامة الدولة الإسلامية»، وعلى رغم زعل الشيخ صبحي الطفيلي؟ هذه أسئلة يجب أن نأخذها في الاعتبار بلا انفعال، وأن ننضجها على نارٍ هادئة لو لم يكن إلا من أجل غربلة الأفكار
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ