لا يمكن ان نتوقع من الحكومة غير ان تسعى لطرح مقترحاتها وفق ما تراه، ولها ان تقدم من التبريرات والمسوغات ما تراه ايضا وان تدافع عنه ايضا، هذا حقها. وللنواب ايضا ان يعبروا عما يرونه من وجهات نظر في أية قضية او قانون، لكن ما يدفع للقلق والخوف الحقيقي هو ان يتصرف الجميع تحت وطأة الانفعال.
انفعال وصراخ وخروج على اعراف حرية التعبير في الشارع، يقابله انفعال وصراخ واطلاق للنعوت في البرلمان أيضاً، وتستخدم الحكومة حالة استثنائية من الخروج في الشارع لتسارع بتقديم قانون يعاقب الناس جميعاً ويقيد حرياتهم. القوانين ومشروعات القوانين ستطرح وستظل تطرح، لكن عندما يتصرف الجميع بهذه الطريقة وتحت وطأة الانفعال ويقابلون الخروج بالصراخ أيضاً فان هذا مدعاة للقلق. النقاش العقلاني والموضوعي مختطف الآن بفعل تصرفات استثنائية مدانة من قبل الجميع، ونحن بطريقتنا هذه لا نفعل سوى ان نستجيب لنفس منطق ما اجمعنا على ادانته.
وفي كل نقاش او جدل مثل هذا، سنظل نردد أننا نحتاج للمقاييس الموضوعية التي نحتكم اليها، لكن في الجدل الدائر الآن بشأن قانون التجمعات التي تنوي الحكومة طرحه على البرلمان، فاننا لا ننطلق من المقاييس الموضوعية ومرجعية واحدة في التعامل مع الموضوع، بل يحكمنا جو من الانفعال والتوتر والميل للتعميم بما ينافي صرامة شروط التجرد والموضوعية الصارمة المطلوبة لدى كل من يتصدى للتشريع.
ما هي مرجعية هذا الجدل؟ ما هي اداتنا الموضوعية لكي نحكم ان هذا القانون مطلوب او انه مقيد للحريات؟ ليس مطلوباً ان نأتي بمرجعية غير الدستور خصوصاً إذا ما تعلق الامر بسن القوانين واكثر المعنيين بهذا الشأن هم النواب الذين اقسموا على احترام الدستور والحكومة التي اقسمت ايضاً على احترام الدستور.
حسنا، ماذا يقول الدستور؟ تنص الفقرة «ب» من المادة (20) من الباب الثالث «الحقوق والواجبات العامة» على ان «العقوبة شخصية». النص ليس نسبياً وليس قابلاً للتأويل. انه مبدأ يؤكد على فردية المسئولية الجنائية، وهو أول ما يدفعنا الى تحاشي التعميم عند الحديث عما جرى في الاسابيع الماضية. اي ان لا يعاقب مجتمع بأسره بجريرة قلة. قاعدة قانونية ثابتة ومستقرة وينص عليها الدستور فكيف سنعمد الى سن قانون عام لكل الناس بناء على تصرف قلة من الناس؟ المخالف يعاقب بناء على مخالفته وبشكل فردي.
اقرأوا هذه المادة أيضاً. الفقرة (أ) من المادة 28: «للأفراد حق الاجتماع الخاص دون حاجة إلى إذن أو إخطار سابق، ولا يجوز لأحد من قوات الأمن العام حضـور اجتماعاتهم الخاصة». ليست هناك أية استثناءات أو أي استدراك، اي ان الاباحة في نص المادة واضح وصريح ومطلق. كيف يراد الان اعطاء السلطة التنفيذية عبر المحافظين سلطة الاذن والموافقة والاطلاع على وثائق الاجتماعات مسبقاً وحق الرفض بما يتعارض صراحة ونص هذه المادة؟
اليكم هذه أيضاً: المادة (31): «لا يكون تنظيم الحقوق والحريات العامة المنصوص عليها في هذا الدستور أو تحديدها إلاّ بقانون، أو بناءً عليه. ولا يجوز أن ينال التنظيم أو التحديد من جوهر الحق أو الحرية». النص عندما ربط تنظيم الحقوق والحريات العامة بقانون فانه حرم أيضاً في الفقرة التالية أي مساس بجوهر الحق أو الحرية. ماذا سيتبقى من جوهر الحق والحرية اذا ما اعطيت السلطة التنفيذية سلطات إضافية في الموافقة أو الرفض والاطلاع المسبق على الوثائق في عقد الاجتماعات العامة؟ اي ان لا ينعقد اي اجتماع الا بموافقات رسمية؟ هذه السلطة الاضافية الممنوحة لموظفي الحكومة مدخل للتعسف لان حق التظلم لن يكون له معنى طالما ان الاجتماع لم ينعقد، لان مجرد عدم انعقاد الاجتماع بناء على رفض موظف عمومي معناه الصريح انتقاص من الحق المطلق للافراد في الاجتماع الذي نصت عيه الفقرة «أ» من المادة 28.
ان الطريقة التي يدور النقاش من خلالها غير مطمئنة. اننا منفعلون وأسرى حال نفسية من التوتر. يمكن أن نتوقع خروجاً وانفعالاً وصراخاً في الشارع، لكن يقلقنا ان يقابل المشرعون هذا السلوك بمثله. واذا ما سارت مناقشة القانون بعيداً عن مرجعية الدستور فان هذا سيكون مؤشراً مقلقاً للغاية بل باعثاً على الخوف. سيكون باعثاً على الخوف اذا لم نجد من يدافع عن مبادىء الحرية التي قررها الدستور لحساب حال استثنائية مدانة. فادانة التصرف والسلوك شيء والانتقاص من المبادىء شيء آخر. فقط تذكروا لماذا يدافع نواب البرلمان البريطاني عن لاجىء مثل محمد المسعري لا يتفقون مع آرائه ولا يتبنونها. دفاعهم كان عن حرية التعبير دون خلطٍ مع ما يقوله المسعري وما يجاهر به.
مقياسنا الاهم في كل هذا: «الطابع السلمي لحرية التعبير». سواء أكان الامر يتعلق بالاجتماعات ام بالمسيرات، لا تبحثوا في أي مكان آخر، موضوعنا ومطلبنا الاهم هو الجوهر والطابع السلمي لحرية التعبير فقط وليس انتقاص الحريات بمبرر الحفاظ على الطابع السلمي بنصوص تفتش في النوايا وتفترض سوء النية سلفاً في الناس
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ