من المظاهر التي تنتشر في بلادنا وتدل - بصورة او اخرى - على تجذر ممارسات وسياسات ليست لائقة بالقرن الحادي والعشرين، انتشار مكاتب تخليص المعاملات. فمن يزور البحرين وينظر الى مهنة «تخليص المعاملات» يتصور انه يعيش في بلد متخلف اداريا بحيث لا يتمكن احد من تمرير معاملاته الا من خلال مختصين، كما لو كان الامر يتعلق بصناعة كبرى من الصناعات التي تنهض بالامم. هذا في الوقت الذي يستطيع المواطنون في البلدان المتقدمة التعامل مع كل هذه الامور من خلال الهاتف أو الفاكس أو البريد الالكتروني او دائرة البريد من دون الحاجة إلى توظيف اناس من اجل هذه الامور.
البحرين التي كانت تتطور إداريا في مطلع القرن العشرين، اصبحت في مطلع القرن الحادي والعشرين الآن في المؤخرة، وتحتاج المعاملة الى مكاتب تخليص في كثير من الاحيان. وحتى لو وظف البحريني شركة بأكملها فإن اموره تتعطل بانتظار «واسطة» أو «كلمة نافذة من الأعلى» لدفع الامور ولو قليلا. هناك معاملات لا يمكن ان تمرر من خلال الاجراءات حتى لو وظف المرء أفضل مكاتب التخليص، لأن المخلصين بحد ذاتهم يحتاجون الى «مخلصين» اعلى منهم يمتلكون نفوذا وقدرات لا تتوافر للانسان العادي او المخلص. اننا نعيش في القرن الحادي والعشرين ولكن بعض الظواهر يبدو انها تنتمي إلى القرون المتخلفة، ولا يبدو انها زائلة قريبا.
ولكي لا نظلم انفسنا، فلقد بدأت وزارة التجارة في الاتجاه الصحيح وأنشأت مركز المستثمرين (المحطة الواحدة) في مجمع السيف، وجمعت كل الدوائر التي يحتاجها المستثمر في مكان واحد (اي في محطة واحدة)، واي مستثمر الآن يمكنه الحصول على جواب مباشر وان يخلص معاملات معينة بأسرع من ذي قبل، وباستخدام افضل انواع التكنولوجيا. الحديث ايضا يدور منذ فترة حول السعي لاقامة «الحكومة الالكترونية» ولكن هذا يحتاج الى «قرار» للمواصفات الفنية وهذا القرار كان يتوقع صدوره من الجهاز المركزي للمعلومات منذ فترة طويلة ولحد الآن لم يرَ النور.
اذاً، فيما عدا مشروع المحطة الواحدة (واليتيمة حاليا)، مازالت البحرين متخلفة اداريا عن القرن الحادي والعشرين، وهذا التخلف يخلق وظائف غير مفيدة للاقتصاد وتضيع الجهود في امور ليست ذات قيمة مضافة. فلو طلب صاحب شركة انشاءات من فرد ما ان يحفر كل يوم عشر حفر ومن ثم يدفنها، فهل تستفيد الشركة في شيء؟ وحتى لو اعطي العامل معاشا من اجل ذلك، فهل هذا عمل يستحق ممارسته من الاساس؟ وهل تمنح كرامة للعامل ولصاحب العمل؟ اذا كان الجواب بالنفي، فان الحال ذاته ينطبق على مهنة تخليص المعاملات التي لا تنتمي الى عصرنا ولا نستفيد منها شيئا. نعم هناك من يتعيش منها، ولكن علينا ان نرحمهم ونرحم انفسنا ونبدأ باعادة صوغ الامور بحيث ينتقلون الى مهنة اخرى ونقضي على المهنة من الاساس.
وفي قصة كانت تتداول في بريطانيا قبل سنوات عدة عن شخص عمل في احد المصانع وبعد ان قضى أكثر من25 سنة وتوفي، لم يتغير الوضع في العمل شيئا، على رغم ان الاجراءات كانت تنص على «وجوب» قيام ذلك الشخص بفتح صمام وغلق آخر كل ساعتين او ثلاث يوميا، والا «انفجر» المصنع. وبعد التدقيق اكتشف المهندسون ان «شبكة الصمامات» التي كان يصونها المتوفى قد قطعت عن المصنع قبل اكثر من عشر سنوات وهي ليست ذات قيمة من الاساس، والرجل كان يقوم بعمل فارغ المحتوى ومضيعة للوقت. وهذا هو حالنا مع عدد من المهن والنشاطات والاعمال التي نشاهدها في البحرين، فكثير منها عديم القيمة والفائدة ويمتص جهودنا ويؤكد تخلفنا عن الركب المتسارع في التطور عالميا
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ