العدد 795 - الإثنين 08 نوفمبر 2004م الموافق 25 رمضان 1425هـ

المنامة - تقي البحارنة

البلاغة في نهج البلاغة

الكلام المعجز هو كلام الله عز وجل في قرآنه الكريم. وإعجاز القرآن بحر غزير الأعماق لا تنفد ذخائره.

ثم تأتي بعد ذلك، البلاغة النبوية فيما صدر عن النبي الكريم من قول وموعظة وحكم وخطاب.

ولا يختلف أولو العلم في زمان أو مكان، في أن خطب الإمام علي بن أبي طالب وأقواله المأثورة، تأتي في الدرجة الثالثة مستمدة نورها الوهاج من إعجاز القرآن، والبلاغة النبوية وشعلة الإيمان، ومنهج الحق والصدق الذي انتهجه أمير المؤمنين لآخرته ودنياه، أو كما عبر عن ذلك بصدق الشاعر المرحوم مصطفى جمال الدين في قوله:

ضرب الله بين وهجيكما حدّا

فأنت المنار وهو المنير

واشتهرت خطب الإمام علي بالفصاحة والبلاغة حتى أصبحت مدرسة بذاتها وأصبح «حفظ كلام الأصلع» جواز المرور في عالم الأدب والفصاحة.

وأول من عكف على جمع خطب أمير المؤمنين وأقواله هو نقيب الشرفاء في زمانه، الفقيه العالم والأديب الشاعر السيد الشريف الرضي الذي شهدت بعبقريته الأجيال، فجمعها في كتاب «نهج البلاغة». ثم جاء من بعده العالم المؤرخ الأديب (ابن أبي الحديد) فأضاف إلى «النهج» شرحا موسعا في عدة أجزاء وألف كتابه المشهور في شرح نهج البلاغة، وأصبح مرجعا للدارسين وموسوعة قيمة في الأدب والتاريخ وعلم اللغة.

ثم كتب آخرون عن نهج البلاغة على مدى الأجيال. ومن هؤلاء الشيخ ميثم البحراني من علماء البحرين، والذي انتهج في شرحه تأويلا روحانيا صوفيا، كمنهج في درب السالكين.

أما في العصر الحديث، فقد عكف شيخ النهضة الإسلامية بمصر الشيخ محمد عبده، على جمع خطب الإمام علي بعد استبعاد ما رآه مشكوكا فيه عنده، وطبعها في قالب حديث مقتصراً على الشرح الموجز، وذلك في كتابه «شرح نهج البلاغة» الذي فرض نفسه على جميع المكتبات الخاصة والعامة كمرجع لا غنى عنه.

وسرعان ما تنازع أولو الاختصاص من أعلام الأدباء المشهورين لا سيما في مصر، على صحة نسبة بعض من تِلكم الخطب إلى الإمام. بعضهم بدافع التحقيق العلمي ومعظمهم انسياقا وراء حملة التشكيك في التراث الأدبي القديم شعرا أو نثرا، والتي حمل لواءها طه حسين ومن شايعه. فمنهم من قال بعدم صحة بعضها، ونسب الزيادة لمن جاء بعد الشريف الرضي. ومنهم من نسبها إلى الشريف الرضي نفسه، ومن بين هؤلاء وأولئك من قال: إن الشريف الرضي بذل جهده في الجمع ولم يبذل الجهد في التحقيق وهو قول زكي مبارك في كتابه عن «عبقرية الشريف الرضي».

وليست مناقشة تلك الأقوال والمزاعم موضوع هذا الموضوع، ولكن هناك أمور متفق عليها ولا ينال منها التشكيك، من مثل:

1- إن استبعاد بعض الخطب لا يضير «نهج البلاغة» من حيث قيمته ومكانته.

2- إن السيد الشريف الرضي وهو سليل السادة الأشراف كان معروفا بقدرته على التحقيق في المسائل الفقهية، ونصوص التأويل وأمانة النقل. فكيف يفرط فيما ينسبه إلى جده أمير المؤمنين... وهو على تلك المنزلة من حب الإمام علي والأئمة الأطهار من بعده.

3- إن استبعاد بعض تلك الخطب التي قيل إنها ليست على شاكلة اسلوب الإمام ونهجه في الخطابة، واسلوب عصره المميز، لا يضير الشريف الرضي، إذا ثبت أنها مدسوسة عليه، أو إذا ثبت أنها أضيفت من بعده. ولا شك أن الشريف الرضي أقدر من غيره على معرفة ما يتماشى مع أسلوب الإمام وأسلوب عصره.

وخلاصة القول: إن كتاب «نهج البلاغة» كما هو بين أيدينا اليوم سيظل نبراسا للسالكين في منهاج البلاغة والزهد وعلم اليقين، ومرجعا خالدا للدارسين.

كنت مع المرحوم إبراهيم العريض في زيارة للأديب اللبناني «البير أديب» صاحب مجلة «الأديب» خلال الستينات وسألته: بماذا تشغل أوقات فراغك؟ فأجابني: (وهو للعلم من الإخوة المسيحيين) قائلا: أملأ وقتي بقراءة القرآن ثم كتاب «نهج البلاغة».

ثم إني أقول مطمئنا: إن خطب نهج البلاغة ليست نهجا للبلاغة فقط، وإنما هي سبيل للمتقين الصالحين أينما وجدوا. إنها مدرسة لسلوكيات المسلم والإنسان عموما، لكسب رضا الله، والتمسك بالقيم الانسانية النبيلة.

وبعد، فإن استشهاد الإمام علي في شهر رمضان المبارك على يد أشقى الناس (ابن ملجم) وموقف الإمام النبيل في قوله ما معناه: إذا عشت فأنا أولى به، وإذا مت فإنما هي ضربة بضربة، وإياكم والتمثيل بالرجل (يعني عدم الانتقام من ابن ملجم إذا لم يمت من ضربة واحدة)، أثار في نفسي هاجس الكتابة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً