على غير ما توقعت فاز المرشح الجمهوري جورج بوش الإبن بفترة رئاسية ثانية، وهي أخيرة بالنسبة له يقطن فيها في البيت الأبيض هو وزوجته الذي اعترف لها بالفضل في انتصاره في هذه الجولة من التحدي للمرشح الديمقراطي جون كيري، الذي انسحب من السباق كما ينسحب الفارّون من المعركة خوفاً على حياتهم حتى وإن كان النصر حليفهم. كما جاء في خطاب النصر المفعم بالكلمات التي لم نعهدها من بوش الإبن كالإبتداء بشكر العائلة خصوصاً الأب جورج بوش الذي أغفله في السنوات الأربع الماضية حتى يتبعه شبح خسارته في الإنتخابات ضد كلينتون والأم التي رعته وحمته وتنكر لها في انتصاراته السابقة ورفض المثول لنصائحها (باربرا بوش)، وشكر جميع أفراد عائلته الذين يحبون السكن في تكساس على «دي سي» إذ مرتع طفولتهم وحيث أبقارهم وأحذية الكوبوي التي يرتدونها في مطاردة الثيران قبل البقر، وحيث المسدسات المطعمة بالجواهر والأحجار الكريمة ذات الطلقات الرنانة والصوت المدوي. والملاحظ في كلمته هذه إنه لم يذكر أبداً شيئاً عن «ولادته من جديد» أي كانت تلك الولادة!
وفيما انشغل الناس بالنتيجة كانت أفكاري جميعها منصبة على معرفة من هم الذين أوصلوا بوش الإبن إلى سدة الحكم من جديد، ولم فشل جون كيري في الوقت الذي كانت جميع المؤشرات تدل على فوزه بالإنتخابات لا محالة. هل هي البطانة الملتفة حوله هي المسئولة عن انتصاره الكبير؟ هل هو الخطاب الـ «إبن لادني» الأخير الموجه للشعب الأميركي والشعوب الأوروبية هو المسئول عن انتصار بوش الساحق إذ دب الرعب في أوصال الأميركان من احتمال هجوم مباغت يودي بحياة كثيرين لا دخل لهم في الصراع الدائر على الساحة الأفغانية وهم لذلك بحاجة إلى رجل مثل بوش الابن ليتصدى لمثل هكذا تحدٍ؟ هل هو النفط وأسعاره التي صعدت إلى مشارف أبواب السماء هي المسئولة عن هذا الفوز الذي زعزع ثقة الديمقراطيين بأنفسهم وببرنامجهم الإنتخابي وبحمارهم؟ أم هي المؤامرة مرة أخرى إذ يشتم منها رائحة غيت جديدة قد تهز أميركا هزاً عنيفاً وتعود بها إلى عصور الظلمة والمؤامرات إذ يخرج الأموات احياء من قبورهم لإنتخاب الرئيس؟
أسئلة كثيرة، غير إني لا أرى مانعاً من أن أخوض هذه التجربة في الإجابة على هذه الأسئلة التي أرقتني أشد الأرق وأطارت النوم من جفوني وجعلتني أحدق مليا في صفحات الكتب وشاشات التلفزة وأن أكون كلي أذاناً صاغية لما تبثه من غث وسمين. للإجابة على السؤال الأول أستبعد أن يكون لبطانة الرئيس أي دخل في الفوز الساحق، فجميع الأخبار تورد أن وزير خارجيته مل العمل معه وهو ينوي الخروج من معمعة سياسة بوش الخارجية والنجاة بجلده ليعمل مستشاراً أو أستاذا جامعياً يحاضر عن أهمية غزو العراق في تحرر الشعب العربي!
وزير الدفاع رامسفيلد هو الآخر مل العمل مع فريق لا يسمع له بشكل كلي ومل مراوغات وزير الدفاع السابق في عهد بوش الأب، وملّ تحالفه الكلي مع أفكار بوش الإبن. فهو الآخر ينوي الرحيل بعيداً والعمل في التأليف وكتابة المذكرات وتقديم الاستشارات الإستراتيجية لمن يطلبها. وهو الحال في أمر وزراء آخرين أمثال وزيرة الأمن القومي ووزير الخزانة ووزير المواصلات ووزير العدل.
إذاً من هذا نستنتج أن «البطانة» ليست مسئولة عن هذا الإنتصار، وإن أبدى بعضهم في خطابه بعد الفوز ما يشير إلى أنهم يأملون في أن يصيبهم شيء من الشكر والعرفان. قضاة كثيرون هم الآخرون ينوون الرحيل، وقد بدا استعداد بوش الإبن بتغييرهم، وأهم تغيير قد يحدث هو تغيير رئيس المحكمة العليا الذي يعاني من السرطان وقد يعمل من منزله.
بشأن الخطاب الذي ألقاه بن لادن قبل الإنتخابات بأيام إذ وجه خطابه إلى الأميركان فجميع الدلائل تشير إلى أن الخطاب لم يؤثر في الخطة الأولى الرسمية للحزب الجمهوري للفوز بالانتخابات وان بدا أن التأثير بدا واضحاً في ولاية نيويورك التي صوتت لمنافسه كيري. ويرجع كل المحللين السياسيين فوز كيري بهذه الولاية يعود إلى تهوده تهوداً لا رجعة فيه.
النفط تلك السلعة التي تتسابق عليها الأمم والتي صبت جام غضبها على المجتمعات الصناعية والزراعية إذ صعد سعر البرميل إلى خمسة وخمسين دولاراً ونتيجة لذلك صعدت أسعار المواد التي توفر الطاقة للسيارات والطائرات والبواخر والتدفئة وغيرها ما يشكل عصب الحياة العصرية إلى أسعار خيالية، ما أثّر بدوره على دورة الإقتصاد وخصوصاً الأميركي منها والاوروبي. رأي بعض الأميركان أن حرب واحتلال العراق كانت عادلة لكونها ستوفر غطاءً مستقبلياً لتوفير الطاقة على مدى السنوات الخمس المقبلة على إنه يجب على أميركا أن تفكر بمصادر أخرى للطاقة لتحمي مستقبلها ومستقبل أبنائها من الانهيار والتدهور. يميل كثير من المحللين السياسيين إلى الإعتقاد بأن هذا العنصر - النفط - لعب دوراً في إعادة انتخاب بوش الإبن.
قضية المؤامرة أيضاً برزت على الساحتين الأميركية والبريطانية، وكانت أشد بروزاً على الساحة الأولى، إذ توجهت جميع أبصار وبصائر المحللين والساسة إلى فلوريدا التي غيرت آلة انتخابها لهذه العام أربع مرات وأتت بخبراء أجانب وخصوصاً من دول أوروبا كي يسهموا في ردم الهوة بين الآلة والناخب، والنتيجة إلى جانب ذلك فهم استعانوا في البدء بعدسات مكبرة ذات درجة عالية من الصقل وألحقوا بها قطعاً قماشية لتحميها من شوائب قد تلصق بها أو غبار متطاير هنا وهناك، ما قد يؤثر على سير العملية الإنتخابية والنتيجة. غير انهم بعد صراع داخلي اتفقوا على الإتيان بما يعرف في عالم التكنولوجيا بـ «التصويت الإلكتروني» وبتقنية «تش إسكرين» وهي عبارة عن شاشة حاسوب يخول للمتعامل معها لمسها لمساً رقيقاً لتلبي له طلبه بما يحتاج من معلومات أو الإجابة على سؤال معين. وهذه التقنية موجودة بيننا من زمن تقريباً قديم إذ نراها في آلات البنوك وآلات دفع الفواتير. تبقى مسألة فلوريدا عالقة حتى تعلن النتيجة رسمياً وفيها أن لا خطأ جوهرياً حدث لهذه الآلة الانتخابية وبالنتيجة، الأخبار الأولية تقول إن من بين الأربعين مليون ناخب الذي صوت عن طريق هذه الآلة (وزعت 175 ألف آلة انتخابية من هذا النوع)، تذكر حصول بعض الأخطاء (في ست ولايات) منها أن الآلة لم تتعرف على المرشح الذي يصوت له الناخب، الخطأ الثاني هو قصور في الذاكرة الرقمية للآلة لكونها لم تستوعب العدد. نتيجة لهذا الأمر فقد أعلنت بعض المراكز العلمية عن استعدادها لفرز الأصوات لمعرفة مقدار الخلل الذي أحدثته الآلة في النتيجة؛ هناك أيضاً في قضية المؤامرة مشكلة «أيوا» التي لم تحل بعد فهي لا تزال تشكل قنبلة موقوتة حتى وإن اعترف كيري بهزيمته لصالح بوش الإبن، وهو اعتراف لا تأخذ به القوانين الإنتخابية إذ إنه لو حصل ان اكتشف في حال فرز الاصوات أن المرشح الديمقراطي حصل على الأكثرية فإن المجمع الانتخابي لا يعبأ بما اتفق عليه المرشحان ومباركة أحدهما للآخر. هناك ولايات أخرى قد تظهر بعض مظاهر المؤامرة ولكن ليس بالقوة التي قد تظهرها فلوريدا وايوا.
كيري المسكين والولايات
بالنسبة إليّ العملية ليست ذات علاقة بكل ما ذكرناه هنا، فقد نظرت إلى الولايات التي رشحت وانتخبت فوجدت أن كيري مسكين لأنه لم يفز بهذه الجولة، ويكمن السر في أن الذين صوتوا له هم أشخاص ذوو ثقافة عالية، ويعيشون في ولايات تتمتع بمستوى ثقافي عال. فخذ على سبيل المثال ولاية «مشتسوست» فحيثما وليت وجهك تجد جامعة عريقة: هارفرد، بوسطن، أم أي تي، وغيرها الكثير. إلى جانب دور المسرح ودور العبادة والمتاحف وصالات العرض وغيرها من بيوت المعرفة الكبيرة. ولاية نيويورك هي الأخرى بهذا المستوى، ولاية كاليفورنيا هي الأخرى بالمستوى نفسه. جون كيري نجح باستقطاب العقول والمثقفين والعقلانيين، غير ان بوش نجح في استقطاب الشريحة الكبرى من المجتمع الأميركي تلك المسمى بالدهماء.
بوش الإبن عرف السر فوجده في ولايات لا تتمتع بالثقافة العالية، وغالبية المواطنين لديها هم اما من الكهول والعجائز الذي ينصب جل اهتمامهم في بقاء الرعاية الاجتماعية والصحية حتى الرمق الأخير من حياتهم؛ في هذه الولايات أيضاً الشباب الذي يهتم بالكيفية التي يقضي فيها وقت فراغه وخصوصاً التمتع بالبحر والشمس؛ فأريزونا ولاية صحراوية يسكنها المتقاعدون والمترفون، جماعات تبحث عن الشمس بعد أن غابت عنها طوال فترة شبابها؛ ولاية نيفادا ولاية صحراوية تقتات على القمار المصحوب ببعض وسائل الترفيه القادمة من ولايات أخرى أكثر ثقافة وتعتمد على الشباب؛ تكساس ولاية صحراوية تعيش على رعي البقر ورياضة مصارعة الثيران إلى جانب التشدق بثروتها النفطية المخزنة في جوفها للوقت المناسب؛ نيومكسيكو ولاية صحراوية تنتشر على أرضها الهياكل العظمية لحيوانات هي في طور الإندثار؛ أما عن لويزيانا والمسيسبي وألباما ويوتا فهي كسابقاتها؛ ولاية فلوريدا هي الأخرى ولاية يسكنها العجائز والباحثون عن الشمس وعصير البرتقال الطازج إلى جانب الباحثين عن متعة الحياة في ديزني والبحر.
فوز بوش الإبن بولاية ثانية ليس لأي من العوامل التي يتشدق بها الساسة والمحللون الاستراتيجيون وأصحاب الأفكار الأيدولوجية والداعون إلى الحرب؛ وانما لأنه عرف حاجة العجائز والكهول والشباب. وأكبر مثال على ذلك انظر إلى ابنتي بوش الإبن، فقد انتفت عنهما صفة أن المرأة الأميركية «مسترجلة»، وبدتا أنعم من أنعم نواعم باريس ولندن وطوكيو، ونزعتا عنهما الجينز والـ «تي شيرت» وأصبحتا سيدتين في عمر الزهور تحيي كل منهما الجمهور بخجلٍ، وهذا لم نره على مدى قرن من الإنتخابات الأميركية.
في النهاية نقول إن الدهماء هي التي أهدت بوش الإبن والجمهوريين النصر الذي لم يكونوا يحلمون به، وأي نصر هو في حين تسببت النخبة ومؤسساتها الكثيرة صاحبة رسالة التنوير في فشل كيري الحالم والمتوعد بأخذ الثأر من منافسه منذ زمن بعيد وتسببت في عدم صدق نبوءتنا لنتيجة الإنتخابات التي توقعناها لصالح كيري
العدد 794 - الأحد 07 نوفمبر 2004م الموافق 24 رمضان 1425هـ