«ما يسمى في اوروبا بالحرية هو نفسه ما يسمى في ديننا بالعدل والحق والشورى والمساواة. ذلك لأن حكومة الحرية والديمقراطية هي عبارة عن نشر العدل والحق بين الناس واشراك الامة في تقرير مصيرها» هذا ما قاله رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر، ومنذ ذلك الحين ولغاية اليوم لاتزال فئة من العرب والمسلمين تجادل في الامر، وفئة اخرى حسمت امرها واختارت معاداة الفكر الذي يقوم على هذا المفهوم، وجعلت من نفسها الوريثة الوحيدة لنشر الشريعة الاسلامية بحد السيف بين البشر، واستبدلت بالمتفجرات السيف وبالارهاب الجهاد، لا بل اخذت على عاتقها اعادة تفسير النصوص كافة حسب ما يتوافق مع اهدافها ومصالحها.
الفئة الاخيرة تحولت بفعل دوي متفجراتها، وبفعل دوي رد الفعل عليها من قبل صانعيها الأكثر حضورا في الذهن العالمي، ومن مرآتها ينظر العالم الينا، كعرب وكمسلمين، ولأن النوازع ليست دائما بريئة عند الآخر، وهي لم تكن يوما بريئة، فإن رد الفعل كان أكثر دويا من دوي المتفجرات فتخلخلت العلاقات وبسرعة بين الدول العربية والاسلامية والكثرة المتكاثرة من دول العالم، وبات الآتي من هذه الدول الى دول الغرب متهما حتى لو كان جنينا في بطن امه.
ان العدل والحق والمساواة التي قارنها الطهطاوي بـ «الديمقراطية الغربية» تبدأ من المساواة في الخدمات التي تقدمها الدولة، فلا تكون منطقة تتمتع ببنية تحتية حديثة ومنطقة اخرى تعاني من سوء الخدمات فيها، وتصل الى العدل في توزيع فرص العمل، التي اعتبرها ابن خلدون في مقدمته اساس رفاه الامم وتقدم الدول، واحترام الحق في القول والتفكير والتعبير وتلقي المعلومات، فالاخيرة تؤدي الى تحقيق العدل في توزيع فرص العمل، لأن التجديد في البنى الاقتصادية والثقافية يساعد على توسيع رقعة فرص العمل، وهذا بدوره يؤدي الى تحسين جباية الدولة، واذا ما اقترنت هذه الجباية بالنزاهة فإن ذلك يؤدي الى تحسين البنى التحتية الخدماتية في الارجاء كافة، أما اذا اقترنت جباية الدولة بسوء الادارة والفساد فإنها تتحول الى افقار للشعب والى عرقلة مسيرة الدولة والى الاحساس بالظلم من قبل فئات عدة في المجتمع، ما يؤدي لاحقا الى انتشار العصابات وزيادة معدلات الجريمة والنزوع الى الارهاب في سبيل الانتقام وليس احقاق الحق ونصب موازين العدل.
ان الحرية التي تحدث عنها الطهطاوي والتي كانت بواكيرها بدأت في اوروبا وأخذت الديمقراطية تترسخ في ذاك القرن هي التي ساعدت على زيادة رفاهية المجتمعات الغربية عموماً، وهي التي جعلت من شركة «تابان» الاميركية تطرح في 25 اكتوبر/ تشرين الأول العام 1955 وللمرة الاولى فرن «المايكرويف» بينما لاتزال شريحة كبيرة من العرب تستخدم الوسائل البدائية في الطبخ وهي التي أدت قبل ذلك الى استخدام بصمات الاصابع لتسوية دعوى قضائية للمرة الاولى في فرنسا في 17 اكتوبر العام 1902، فالثانية نتيجة طبيعية للاقتناع بأن المتهم بريء حتى تثبت ادانته وحتى لا يترك أي مجال للظلم يجب استخدام كل الوسائل المتاحة من أجل اثبات البراءة او الادانة، ولأن ذلك ما كان متاحا في ذلك الوقت ونتيجة من الثقة بالعلم صار الى استخدام البصمات في هذا المجال وهو الامر الذي اصبح سنة في العالم كله في مجال التحقيق الجنائي، ولأن المواطن لم يعد يخاف من الشك وبات بامكانه استعمال كل ما يساعده على اثبات براءته ونزع نحو العلم وبدأ يبحث في وسائل رفاهيته وحماية نفسه فتوصل الى اختراع «المايكرويف» الذي قلل الى حد كبير من «الخلافات الزوجية» وساعد المرأة على تنظيم وقتها.
في العالم العربي تركت الامور دائما للصدف وتجري على عواهنها ولم يعط الوقت أي اهتمام، علما ان الوقت احد المكونات الاساسية لثقافتنا فالله سبحانه وتعالى قال: «ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا» (النساء: 103) وهذه واحدة من الآيات التي تحدثت عن احترام الوقت، فالالتزام بالصلاة يعني التزاما بالوقت وبالتالي لا يمكن اهمال الوقت في كل شيء ما عدا الصلاة، لأن ذلك يعني اهمالا لشئون العباد وهذا ما لا يرضاه الله، وبالتالي لو احترم العرب والمسلمون الوقت لتغيرت حالهم. والمثال الأكثر سطوعا في هذا الشأن ان النفط وجد منذ اكثر من ألف عام على سطح الأرض في الكثير من المناطق العربية، ولأن الشك والخوف من القمع ولأن دول تلك الحقبة انشغلت في الصراعات الداخلية اهمل العلم واهمل النفط الى ان جاءت الشركات الغربية وبدأت الاستثمار فيه.
في العالم العربي ايضا يعيش المواطن في وضع ملتبس، فهو مطالب بواجبات وعليه تأديتها على أكمل وجه ومهما تفانى في خدمة وطنه فإنه يبقى محل شك، ولن ترضى عنه السلطات ابدا، وهذا الوضع الملتبس اقصى الطاقات الوطنية كافة في حين فسح في المجال أمام قلة قليلة جدا لتمارس كل رغباتها من دون رقيب أو حسيب، ولهذا وجدنا ان الدين العام العربي بلغ في السنوات الاخيرة 500 مليار دولار، أي ان كل مواطن عربي مدين بـ 1923 دولارا، وهو يدفع فوائد لهذا الدين بينما القلة تستفيد من الديون، وغالبيتها يذهب هدرا في ساقية التسلح او الى جيوب المنتفعين في الدولة.
ومن الامثلة على استفادة القلة ما ذكر في دراسة نشرت في النصف الاول من التسعينات عن بعض الدول العربية وقالت هذه الدراسة: «ان نسبة لا بأس بها من ديون بعض الدول العربية هي ديون وهمية، اذ ان الدولة تقترض واصحاب القرار فيها يستولون على القروض ويعيدون تحويلها الى حساباتهم الخاصة في الخارج ما يعني تحميل الدولة عبء الدين بينما هي لم تستفد منه». وقد اسمت الدراسة بعض الدول العربية وبعض المسئولين في هذه الدول.
هذا في مجال الفساد، أما في مجال التسلح فإن المليارات التي تصرف في هذا المجال تذهب هدرا لاسباب عدة، فالاسلحة التي تشتريها الدول العربية هي من اجيال متخلفة في مجال التسلح، وهي تشتري من دول تشترط عدم استخدام السلاح في أمور عدة، اضافة الى ان الدول العربية اصبحت بلا عدو حقيقي منذ زمن، والمماحكات بين الدول العربية لا ترتقي الى مستوى الحروب، والمغامرة الحمقاء الوحيدة كانت تلك التي قام بها صدام حسين في اغسطس/ آب العام 1990 ضد الكويت.
وعلى رغم مرور نحو 49 عاما على اعلان كل من مصر والاردن وسورية توحيد قياداتها العسكرية (19 اكتوبر 1955) فإن الدول الثلاث خسرت من اراضيها بعد ذلك التاريخ الكثير من دون ان تستطيع تحقيق أي انتصار حقيقي، حتى انتصار اكتوبر العام 1973، تحول على طاولات المفاوضات الى هزيمة انتهت بصلح اعرج باستثناء سورية التي لاتزال خارج الدائرة في اتفاقات الصلح مع «اسرائيل»، وحتى الانتصار اللبناني في تحرير الارض (العام 2000) اصبح يتيما عندما تخلت الدول العربية عن هذا البلد وتركته يواجه مصيره في نفق لا نور فيه.
كل هذا يجعل المتطرفين قادة للأمة، ولو كانت الدول العربية أدركت في مطلع القرن العشرين المعنى العميق لما قاله رفاعة الطهطاوي لكانت هذه الدول وفّرت على نفسها الكثير من هدر الثروات والكثير من الدم والدمار ولكانت فلسطين عادت الى اهلها منذ زمن طويل، ولكانت الامية في أدنى معدلاتها، ولكانت كل النساء العربيات يتمتعن بـ «المايكرويف»
العدد 793 - السبت 06 نوفمبر 2004م الموافق 23 رمضان 1425هـ