بات من الواضح جداً أن قانون «التجمعات العامة» سيفرض على رقاب الشعب من خلال المؤسسة التشريعية التي تمثله افتراضا، لعجزها الذاتي قبل الدستوري في صد هذا القانون، ويبدو أن الجمعيات السياسية فاقدة للبوصلة على مستوى الخيارات السياسية والحقوقية والقانونية لمواجهة هذا القانون سلمياً كما أنها عاجزة عن التصدي لأجندتها التي وضعتها لنفسها. وهو قانون إذا ما أقر، فإن درجة تقييده لا تتعلق بالمسيرات السلمية فقط، وإنما تتعداها إلى خصوصيات الاجتماعات الخاصة أو العامة حتى في البيوت والجمعيات الأهلية ما لم تكن اجتماعاتها لأعضائها فقط، وبذلك فهذا القانون قادر على شل الحياة السياسية وممهد في الوقت نفسه إلى قوانين طوارئ مشابهة له في حال تطبيقه، وحصول تداعيات أمنية بسبب رفض التعاطي معه، أو إقراره حاكماً على الأنشطة السياسية السلمية.
وبالنظر إلى المشهد السياسي المعارض مرة أخرى، فمثل هذا القانون وغيره من القوانين المقيدة للحريات سيمر بكل يسر وسهوله مادامت إرادة العمل السياسي السلمي غائبة، بل محاربة على مستوى الأدوات والوسائل السلمية المشروعة نتيجة الخوف والتردد وغياب الرؤية، كما وضح من إدانة جمعيات سياسية الكثير من الأنشطة السلمية كالمسيرات وغيرها، فضلاً عن رفض الأجندة السلمية المشروعة المخالفة، وعدم توفير الحماية لها، في قبال ترصُّد السلطة لإعاقتها وعرقلتها، ومن ثم حرفها عن الهدف الذي تريده كما حصل في «مسيرة السيارات» المتضامنة من الناشط عبدالهادي الخواجة قبل أيام.
إن الجمعيات السياسية مطالبة قبل غيرها بمغادرة هذا الأسلوب الذي هو أشبه بأساليب السلطة في الموقع المعارض، وعليها أيضاً مراجعة هذا النهج بشكل جدي قبل فوات الأوان، ولكي لا تكون المسألة مجرد إدانة متبادلة مع الجهات المعارضة، وتلاوماً لا يقوى على تحمله الشارع المحبط، فهذه مجموعة مقترحات وآليات عمل سلمية ومشروعة، ولا لبس في مشروعيتها، وهي منطلقة من الأساس لتلبية دعوة جلالة الملك إلى إزالة القوانين المقيدة للحريات، للخروج من نفق التصريحات إلى حيز التطبيق العملي المستند إلى أركان مادية تثبت الحق عبر استخدام الوسائل السلمية المشروعة.
يجب تشكيل جبهة وطنية موسعة من الجمعيات السياسية ونشطاء حقوق الإنسان إضافة إلى المحامين والمستقلين المتصدين للعمل الدستوري تحديداً (لوبي الدستوريين) ومن يريد الاشتراك في هذه المهمة الوطنية لتقديم طعون موصولة في كل القوانين المقيدة للحريات، ومن ضمنها قانون «التجمعات العامة» في حال إقراره، وبذلك يتم تدشين مواجهة سلمية (سلمية بكل ما للكلمة من معنى) شاملة مع هذه القوانين تمهيداً لإزالتها من الحياة السياسية، بعد أن عطلت سيرها بل شلتها عن الحركة ثلاثة عقود، ولتكن هذه البداية لفهم الإشكال الدستوري من زاوية أوسع، وهي الزاوية المتعلقة بالحق وأساليب المطالبة به، وصولاً إلى إقرار مشاركة شعبية في صناعة حقيقية للقرار في البحرين على أساس التوافق الذي لا يخل بالآليات الدستورية المتعارف عليها، منعا لأي اختراق دستوري مستقبلي يتسبب في عدم استقرار الوضع السياسي في البحرين.
ولمن يستجلي المستقبل بوضوح: فإن الطعون الدستورية في القوانين المقيدة للحريات بداية الاستشفاف الشفاف لطبيعة الإشكالية الدستورية، وصولاً إلى التوافق عليها من دون قيود القوانين المقيدة للحريات، والتي تعكس الهواجس السياسية في شكل قوانين، ما يعني أن الطعون ترفع الغطاء عنها بشكل قهري ليسمح للخيارات الأخرى أن تتحرك في أجواء أكثر هدوءًا.
الطعون الدستورية أيضاً هي اختبار جدي وحقيقي لكل مؤسسات الدولة السياسية والتشريعية والقضائية في إطارها الدستوري الحالي، وما إذا كانت قادرة على التعاطي مع الأدوات القانونية شكلاً ومضموناً بما تمثله من إطار لكل هذه الممارسات القانونية المشروعة، حتى لو كانت القناعات تصل إلى عدم الاعتراف بشرعية المخرجات الدستورية الحالية وأدواتها ومؤسساتها، إلا أن فعل الاختبار في حد ذاته يستطيع الكشف عن طبيعة النظام الدستوري الحالي.
اننا بحاجة الى تشكيل فريق عمل نوعي ومتخصص لعرض ترسانة القوانين المقيدة للحريات، وكذلك عرض الخلاف في المسألة الدستورية على جهات حقوقية ودولية وصولاً إلى المنظمات الحقوقية والسياسية في الأمم المتحدة، بوصفها إطاراً جامعاً لكل المؤسسات الرسمية والأهلية وحاكماً عليها ومحكـَّمة فيها ولو من ناحية طرح الرأي والضغط السياسي فيما يتعلق بقضايا الخلاف، لتعريف المجتمع الدولي والرأي العام العالمي بالقوانين التي تحكم البلاد.
هذه القوانين المقيدة للحريات الأساسية فضلاً عن أن الممارسات التعسفية في استخدام هذه القوانين تشكل أركاناً مادية خطيرة يمكن الاستناد إليها دولياً في تعريف الناس بحقيقة الوضع القائم في البحرين، ويكفي لتحريك الإدانات والضغوط السياسية أن تطلع الجهات المعنية في الخارج على تفاصيل بنود هذه القوانين، مع إسنادها بالعريضة الشعبية المطالبة باستقالة النواب والطعون الدستورية في هذه القوانين، فهذه أركان مادية يمكن تحريكها في الأجواء السلمية وبالأدوات السلمية المشروعة لإحداث التغيير المطلوب، ومن دون المساس بأسس الشرعية التي توافق عليها شعب البحرين مع الحكم.
إن إصرار المعارضة على تجميد الأدوات السلمية المتطورة جعلها عاجزة عن مواجهة قانون «التجمعات العامة»، وهي ان ستمت في عجزها في الدفاع بصورة فعلية عن حق الناس ولكنها تبقى تدعي انها مسئولة عن عمل سياسي، فانها بذلك تمارس وصاية سياسية. أما السلطة: فتستثمر هذه الوصاية السياسية لفرض وصاية سياسية وقانونية عليها، وهذا ما يجب على القوى السياسية المعارضة مراجعته بشكل جدي في خطابها وفي أدوات عملها، لكي لا تقع في محذورات أخرى
العدد 793 - السبت 06 نوفمبر 2004م الموافق 23 رمضان 1425هـ