الاعتدال والإنصاف في تقييم التجارب أو الأشخاص أو حتى التاريخ طريق للوصول إلى الحقيقة، وضرب من ضروب العدل لأنه كثيراً ما تكون للعدالة وجوه أخرى غائبة تحت ستار عصبية التقييم أو شحة المعلومة. الإمام علي (ع) كان يكره التطرف في الحكم وهو من سعى إلى تقليم أظافر المتطرفين والمغالين في حبه، فقال «هلك فيّ اثنان، محب غالٍ ومبغض قالٍ». لو فتشنا كل تيار، كل حركة، فلابد أننا سنكتشف جوانب مضيئة فيها، فليس من الإنصاف أن أسم أمة بكاملها بأنها جاهلة أو غبية، أو أن أصف مجتمعاً بكامله بأنه لا يفهم... إلخ. هذه مجرد أمثال أسوقها وعلماء النفس يصفون بعض الأمراض بالأحكام المنمّطة والتي تبنى على أحكام مسبقة ومفاهيم يقينية ترسخت عبر الإشاعة أو الإعلام... لهذا كان سقراط يوجب على كل إنسان أن يوضح حقيقة تفكيره، وألا يسمح لأصحاب «اليقينيات» بأن يفرضوا رؤاهم المنمّطة كمسلّمات، فكان يقول لأحد تلاميذه: تكلم حتى أراك. وهذه هي قصة السود في أميركا وغيرها. (راجع كتاب «سيكولوجية الإنسان المقهور» في بحثه عن الأحكام المنمطة).
الثنائية البغيضة التي تحدث عنها الإمام علي «مبغض قالٍ ومحب غالٍ» هي الأسلوب المعتمد في عالمنا العربي. الحكومات تقيم كل معارضة بالشيطان، تماماً كما سمّاهم أنور السادات بـ «العيال» أثناء ذروة انفتاحه الاقتصادي، لكن الشاعر فؤاد أحمد نجم مع موسيقاره الشيخ إمام عيسى كان يردد على طول تاريخ مصر حيث اختلف مع أكثر الرؤساء «يا أهل مصر المحمية بالحرامية، فين الفول والطعمية». فالحكومات العربية حين تبحث عن دفاتر المعارضة لا تبحث عن بعض إيجابياتها بل تبحث عن العفريت، عفريت المعارضة. كذلك الحال بالنسبة إلى المعارضة العربية، فهي ترى الأنظمة شياطيناً تنكش ليلياً كل جميل.
ولنا مثل في الحركات الثورية والتحررية في عالمنا العربي، فقد أصبحت هذه الدول ذات التاريخ المؤدلج أكثر الدول انتهاكاً لحقوق الإنسان. ما أريد أن أخلص إليه هو أننا في تقييمنا لبعضنا بعضاً يجب أن ننصف بعضنا، فلدى كل منا إيجابيات وسلبيات، لكن هناك نقطة يجب عدم القفز عليها حتى لا تضيع الحقيقة وهي أن عالمنا لا يخلو من فاسدين وطغاة مثل صدام حسين وستالين وبوكاسا وغيرهم، فأمثال هؤلاء لا ينطبق عليهم ما أردت التنظير له، وما أكثرهم.
ما أردت طرحه أننا في علاقاتنا السياسية أو الاجتماعية يجب ألا نتعصب، يجب أن ننفتح على كل التيارات الموجودة ونبحث عن إضاءاتها. وليس هناك أحد بلا أخطاء حتى الشخصيات الكبرى في التاريخ لها إيجابياتها ومن الخطأ التركيز على سلبياتها إلا إذا كنا نبحث عن ملائكة، فإذاً أرونا ملائكة السياسة وملائكة الدين وملائكة الاقتصاد. الإسلام ليس زقاقاً ضيقاً ولا مخدعاً أيديولوجياً مظلماً بحيث يرتطم الإنسان بجدرانه... علينا أن نفتح عقولنا على إيجابيات الامم وكل آخر. هناك حكمة صينية تقول: «العقول الصغيرة تناقش الاشخاص، والعقول المتوسطة تناقش الأشياء، أما العقول الكبيرة فتناقش المبادئ». ويقول لورد توماس: «العقول كمظلات الطيارين لا تنفع حتى تفتح». وعلى ذكر الشخصيات... هل تذكرون المهاتما غاندي وما فعله في الهند من دور كبير لتحريرها؟ هناك عقول مغلقة ألقت كل إيجابيات غاندي في البحر وراحت تبحث عن سلبياته وما قالوه كان صحيحاً، ولكن هل يقاس ذلك أمام إيجابيات غاندي؟ في النهاية غاندي إنسان. يقول الكتاب الصادر عن مركز اللاعنف وحقوق الإنسان في دراسته «غاندي صانع اللاعنف»: «لا تأليه لغاندي في هذه الوثيقة. بل فيها غاندي الإنسان الغني بالتناقضات، غاندي الروح الكبيرة (المهاتما) ومثال اللاعنف من جهة، وغاندي الفظ مع زوجته من جهة أخرى. غاندي الاستراتيجي الكبير الذي انتصر على الامبراطورية البريطانية من جهة، والمحامي الفاشل من جهة أخرى. غاندي الذي سيطر على رغباته وغرائزه، وترفع عن مناصب السلطة من جهة، وغاندي الذي كان نهماً جنسياً في أوائل حياته» (ص3).
إذاً، البحث عن الإيجابيات غير الضرورية وثنائية البغض والحب المفرطين يجب أن يهذب. هل تريدون تأصيلاً لهذه الفكرة؟ اقرأوا التاريخ الإسلامي. يروي الفضيل أنه ذهب ذات يوم إلى الإمام الصادق (ع) ليعزيه في عمه زيد بن علي، وقرأ له بيتاً من إحدى قصائد السيد الحميري، فقال الإمام: رحم الله الحميري... فتعجب الفضيل، وقال للإمام: ولكنه يا سيدي عُرف بخصال كذا وكذا (ذكر بعض سلبياته)، فقال له الإمام: «إنْ زلّت له قدم فقد ثبتت أخرى». دعونا نبحث عن إيجابيات الحياة، إيجابيات الأمم بعيداً عن التعصب. فكل أمة وكل تجمع لا يخلو من خيّرين. وسؤال أخير: لماذا يدعونا رسول الله (ص) إلى أن نأخذ علمنا ولو كان في الصين؟ «اطلبوا العلم ولو في الصين». التجربة الإنسانية غنية بالمعارف والعلوم الإنسانية «الانثربولوجيا». سننصف كل آخر إلا إذا كان الخطأ فينا فلا حل في ذلك، ورحم الله المتنبي إذ قال:
ومن يكُ ذا فمٍ مُر مريضٍ
يجد مُرّاً به الماءَ الزلالا
هذا المفهوم التسامحي يجب أن نطبقه على كل آخر من مذاهب وعلوم وشخصيات وخصوصاً إذا كانت الشخصيات هذه عرفت بالعلم والتقوى من أئمة المسلمين وفقهائها. لهذا كان الحديث سواء في مسائل التقليد أو غيرها أو في قضايانا المجتمعية والسياسية. دعونا نبحث عن إيجابيات العاملين في ساحتنا الإسلامية، أصحاب العقول والمعرفة والضمير أيضاً
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 793 - السبت 06 نوفمبر 2004م الموافق 23 رمضان 1425هـ