حتى الآن لاتزال إدارة باراك أوباما تعاني أزمة الخروج من «الدبلوماسية الغبية» التي ورثها من إدارة جورج بوش السابقة. فالرئيس السابق ترك له مشكلات مفتوحة على احتمالات خطيرة ولم يغادر البيت الأبيض إلا بعد أن أوقع واشنطن بكارثة مالية تعتبر الأصعب في تاريخ الولايات المتحدة كذلك أنهى عهده بإعطاء الضوء الأخضر لحكومة أيهود أولمرت للبدء في عدوان مبرمج على قطاع غزة.
هناك ملفات كثيرة تحتاج إلى «دبلوماسية ذكية» لاحتواء تداعياتها وتجاوز تأثيراتها السلبية على موقع الولايات المتحدة ودورها الدولي. الأزمة النقدية مثلا تتطلب خطوات جذرية تتخطى سياسة الحماية وضخ الأموال في قنوات المؤسسات المصرفية والشركات الصناعية. فالأزمة بنيوية وهي تحتاج خطة اقتصادية طويلة المدى للسيطرة عليها وهذا ما دفع أوباما إلى الاعتراف مرارا بأنه لم يكن يتصور أن المشكلة كبيرة وعميقة بهذا القدر.
عشر سنوات تحتاجها الولايات المتحدة للوصول إلى بر الأمان وإعادة القطار إلى سكة التقدم والتطور كما كان أمر أميركا في ستينات القرن الماضي. وتقدير أوباما لمدة الأزمة جاء بناء على دراسات وقراءات وإحصاءات رقمية وهيكلية. وجاء التقدير بمثابة صفعة قوية تلقتها الطبقات الوسطى وأصحاب الدخل المحدود والمجموعات الملونة التي تحمست لأوباما وأعطته أصواتها ظنا منها أنه يمتلك مفتاح الحل السريع لكوارث حلت على أسرهم وعقاراتهم وأعمالهم.
الأزمة النقدية تعتبر واحدة من معضلات أخرى تركها بوش لأوباما. فهذه المشكلة ليست محلية فقط وإنما لها امتدادات دولية تتصل بأوروبا والصين واليابان وبعض الدول التي تعطي القروض وتشتري السندات لتغذية الخزانة الأميركية بالمال. وهذه المجموعات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة لتمويل الموازنة الهائلة أخذت بدورها تعاني من ركود وتعطل ونقص في السيولة ما يقلل من إمكانات ضخ الأموال والإنفاق وشراء الديون وتغطية عجز ميزان المدفوعات والتجارة الدولية.
لا تتوقف مشكلات أوباما على الجانب النقدي في إطاريه المحلي والدولي وإنما تتوسع لتشمل جوانب أخرى من الصورة. فهناك قضايا سياسية وأمنية وضعها بوش في ملفات مفتوحة على الطاولة قبل أن يغادر المكتب البيضاوي. والملفات لا تقتصر على أزمات اخترعها «تيار المحافظين الجدد» في أفغانستان والعراق والصومال وإنما تشتمل أيضا على متفجرات أخرى مزروعة على خطوط الذهاب والإياب بين أميركا وأوروبا وبين واشنطن وموسكو. وهذه المتفجرات تحتوي على أوراق خطيرة قابلة للاحتراق في حال تأخر أوباما في معالجتها.
بين أميركا وأوروبا هناك الود التاريخي المحكوم بتجارة المحيط الأطلسي والمظلة الأمنية تحت سقف الحلف العسكري (الناتو). ولكن الود أخذ يتعرض إلى انحناءات في عهد بوش بسبب الاختلاف على الكثير من السياسات الطائشة على مستوى التعامل مع النقاط الأوروبية الساخنة (البوسنة وكوسوفو) أو على مستوى التعاطي مع روسيا الاتحادية واستفزازها في مسألتي درع الصواريخ وجورجيا.
التعامل السلبي مع موسكو وعدم احترام مصالح الكرملين والتحرش العسكري في معاقله كلها خطوات لم ترحب بها العواصم الأوروبية لأنها تهدد أمنها القاري وتثير حساسية الجار الجغرافي القوي في عقر دارها. لذلك تتوجه أوروبا الآن نحو إرضاء روسيا وتقديم تنازلات لها وتطمينها حتى تكون في حال من الاسترخاء السياسي حين يبدأ أوباما جولته الأولى في القارة الحليفة وصولا إلى تركيا. فالرئيس الأميركي يحاول نزع صواعق المتفجرات من خلال التفاهم على ترتيبات أمينة تضمن لموسكو موقعها ولا تهدد حدودها ومجالها الحيوي. ونزع الصواعق يبدأ بتجميد نشر الدرع الصاروخي في بولندا وتشيخيا وعدم ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الحلف الأطلسي.
إقفال ملفات
الملف الأمني الروسي - الأميركي لا يقتصر على مساحة أوروبا وإنما يمتد سياسيا ليشمل جغرافيا آسيا الوسطى وإيران. فواشنطن بحاجة إلى موسكو لمساعدتها في السيطرة على بؤر العنف في أفغانستان كذلك تريد منها أن تلعب دور الشريك في الضغط على طهران لتجميد مشروع التخصيب وإقناعها بالتخلي عن طموحاتها النووية.
المساعدة نفسها يمكن أن يطلبها أوباما من الصين في مواجهة نمو طموحات كوريا الشمالية الصاروخية والنووية وتهديدها لأمن حلفاء الولايات المتحدة في شرق آسيا (اليابان، تايوان، كوريا الجنوبية). والطلب الأميركي الأمني من الصين له ذاك المقابل الاقتصادي (فتح السوق لتصريف المنتوجات) والمال (استمرار ضخ الأموال لسد عجز الموازنة والخزينة).
أمام أوباما الكثير من الملفات والقليل من الوقت حتى يرسم معالم سياسته «الذكية» للخروج من المآزق والمفخخات التي تركتها دبلوماسية بوش «الغبية». فالرئيس الجديد يدرك أنه لا يستطيع أن يعالج ملف إيران النووي من دون مساعدة روسيا وحتى ينجح في كسب موسكو إلى موقعه لا بد أن يقدم تنازلات قاسية في موضوعي درع الصواريخ والقوقاز ومحيطه. وهذا ما بدأ يشير إليه في تصريحاته.
كذلك لا يستطيع أوباما التقدم في ملف كوريا الشمالية النووي من دون تقديم توضيحات أميركية - أوروبية بشأن «استقلال إقليم التيبت» مرفقة بضمانات ورقية (سندات) تغطي تلك الديون المالية التي أبدت القيادة الصينية مخاوفها بشأن مصير عودتها واحتمال خسارتها. وهذا ما دفع أوباما إلى إرسال إشارات إيجابية تطمئن بكين إلى متانة العلاقة وموقعها الاستراتيجي ودورها الخاص في محيط يشهد نهضة تتنافس القوى الإقليمية على الاحتفاظ بصدارة الرعاية الأميركية.
أوباما حتى الآن لم يستطع أن يفعل الكثير وتراجع قليلا عن بعض وعوده وأخذ يعيد النظر بتلك الملفات التي افتعلها بوش قبل مغادرته البيت الأبيض ما رفع من درجة الصعوبات في وجه إدارته. وأوباما الذي بات على قناعة بأنه يستطيع أن يغلق بسهولة بعض تلك الملفات المفتوحة في أوروبا (البلقان والقوقاز والدرع الصاروخي) وربما يتمكن من تخفيف حدة التوتر الناجمة عن الملفين العراقي والأفغاني أصبح أيضا على قناعة مضادة بأن المشكلات الأخرى تحتاج إلى دبلوماسية من نوع مختلف في رؤيته وتطلعاته وخصوصا تلك المتصلة بملفات «الشرق الأوسط».
سياسة إقفال الملفات المفتوحة في أوروبا الشرقية التي باشرها أوباما لا تغلق آليا تلك النقاط الساخنة في قوس الأزمات من أفغانستان وإيران والعراق إلى لبنان وفلسطين والسودان. فالعلاقة بين الأزمات ليست مشروطة بتبادل الملفات وإنما هي محكومة بمدى قدرة الولايات المتحدة على تجميع الأوراق واستخدامها للضغط بالتوافق أو بمشاركة أوروبا وروسيا والصين. وهذا الأمر يحتاج فعلا إلى دبلوماسية لا تعتمد على «الذكاء» فقط وإنما تتطلب قوة مالية للدعم والتغطية أيضا... وتبدو هذه القوة الخفية متراجعة الآن دوليا بسبب الأزمة النقدية التي وصفها أوباما بأنها أكبر من التوقعات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2382 - السبت 14 مارس 2009م الموافق 17 ربيع الاول 1430هـ