العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ

الأصولية الأميركية تختار بوش لولاية ثانية

أخيراً وقع السيناريو الأسوأ. الأصولية الأميركية (المسيحيون الانجيليون) جددوا ثقتهم بالرئيس بوش، وأعطوه ولاية ثانية في البيت الأبيض.

فاز بوش بغالبية بسيطة ونال ثقة 51 في المئة من الأميركيين مقابل 48 في المئة لمنافسه الديمقراطي جون كيري وذهب الواحد في المئة إلى المرشح المستقل رالف نادر.

أميركا إذاً منقسمة وغير موحدة في خياراتها، كذلك انقسمت الولايات المتحدة بين 30 لبوش و20 لكيري. وتوزع أنصار بوش في ولايات الوسط الغربي (مدوست) والجنوب وبعض ولايات الساحل الشرقي، بينما سيطر كيري على ولايات الشمال الشرقي والساحل الغربي.

الانقسام ايضاً اجتاح التكوين الاجتماعي واللوبي (العرقي) والديني والطائفي (المذهبي). المسلمون واليهود والأفارقة والهاسبانكس (اللاتين) والكاثوليك انحازوا إلى المرشح الديمقراطي (الكاثوليكي)، بينما انحاز البيض والأغنياء والبروتستانت إلى المرشح الجمهوري (الأصولي الانجيلي).

المعركة إذاً واضحة المعالم وهي ترسم حدود الانقسام الأهلي الداخلي في سياق جغرافي بدأ يتمظهر في الشخصية الأميركية، وربما أسهم لاحقاً في تكوين هوية مختلفة عن الصورة التقليدية التي عرفت بها الولايات المتحدة.

نحن إذاً أمام أميركا جديدة تقودها أصولية دينية انجيلية متطرفة يغلب عليها اللون الأبيض، وتنتمي في جذورها إلى فئة يطلق عليها «الواسب». وكلمة «الواسب» مركبة من مفردات تعني (أبيض، انغلو، ساكسون، بروتستانت). هذه الفئة تعتبر نفسها تمثل الجذور الحقيقية للولايات المتحدة وهي التي أسست هذه الدولة (الحلم) الأوروبية، وبالتالي فإن «الواسب» هم الأصل وكل من جاء بعدهم من الفروع التي حاولت الإستفادة من ذاك الحلم تتجه الآن إلى سرقة الدولة منهم.

هذه الأصولية الجديدة هي فعلاً أميركية التاريخ والتركيب، ولا نجد لها مثيلاً حتى في الدول الأوروبية. فالأصولية الأميركية ليست دينية صافية وليست عنصرية صافية وليست أوروبية صافية، وإنما هي مزيج مركب من مجموعة عناصر تؤمن بالتفوق وتعتبر أن «الله أعطاها أميركا (الأرض الجديدة) هبة من عنده لخلاص البشرية من عذاباتها». ولذلك أميركا هي الدولة الوحيدة في العالم التي تحتفل سنوياً بعيد الشكر. والشكر هو للصانع عز وجل الذي اختارها ووهب لها هذه الأرض لتأسيس أحلامها ونموذجها الخاص والمستقل.

ضمن هذا الإطار (التصور الديني العرقي) يمكن أن نفهم لماذا حصل هذا الاستنفار العصبي؟ ولماذا حشدت الكنيسة (الانجيلية البروتستانتية) كل قواها وجندت شبابها للتصويت لبوش؟ فالتصويت لم يحصل ضد العرب والمسلمين والقضية الفلسطينية فقط وإنما هو ردة فعل مركبة من مجموعة عواملها منها كره الأجنبي (العربي والمسلم تحديداً) وخوفاً من الخطر الخارجي (عنتريات بن لادن والزرقاوي) وأيضاً دفاعاً عن هوية أميركا الأصلية وهي في نظرهم أوروبية مسيحية بيضاء.

وبما أن الحزب الديمقراطي حشد خلفه كل الملونين إضافة إلى السود والعرب والمسلمين واليهود والمجموعات الكاثوليكية اللاتينية فقد رد «الواسب» بهجوم مضاد حشدوا فيه كل قواهم وراء رئيس تبنى خطابهم الايديولوجي ولعب على مشاعرهم وأبدى استعداده للانجراف معهم داخلياً والذهاب بعيداً معهم في معركتهم ضد الخارج.

إنها إذاً معركة كبرى. وبرأيهم أنها بداية المعركة الأخيرة بين «الخير» و»الشر» ومكان تلك المعركة فلسطين (شمال فلسطين تحديداً)، إذ ستلتقي الجيوش القادمة من الشمال (لبنان وسورية) لمواجهة قوى الخير.

هذه المعركة برأيهم لن تحصل اليوم، ولكن لابد من حصولها. وحتى تقع لابد من العمل من أجلها من لخال تهيئة الأجواء لها. ومن يخالفها يخالف إرادة الله. فهي نبوءة قال بها القديس يوحنا.

«الأصوليون الأميركيون» يبدو أنهم من خلال تأسيسهم في ستينات القرن الماضي ما يعرف بـ «التحالف المسيحي» شكلوا قوة ثالثة وضاربة خلال العقود الأربعة الأخيرة، واكتشفوا أن هذه القوة الجديدة لا تستطيع التأثير على القرار الأميركي من دون محاولة للسيطرة عليه من خلال لتأييد أو الالتحاق بحزب من الحزبين الكبيرين: الجمهوري والديمقراطي.

وبما أن الحزب الديمقراطي هو حزب الأقليات والملونين والطوائف والمذاهب الأخرى فقد اختار الأصوليون الجدد الحزب الجمهوري كأداة طيعة لرغبات مجموعات ضخمة تبحث عن منفذ لها للوصول إلى السلطة.

وتصادفت هذه النزعة اليمينية المحافظة مع نزعة يسارية «أصولية» متطرفة (ترتسكيون) تكن العداء للاتحاد السوفياتي (ستالين) والصين (ماوتسي تونغ) والعرب (متخلفون اجتماعياً) وكل حركات التحرر الوطني والاستقلال السياسي عن أوروبا (نزعات برجوازية صغيرة) فكان اللقاء والتحالف ضد امبراطورية الشر (الاتحاد السوفياتي) في السبعينات والثمانينات. وحين سقطت «امبراطورية الشر» في التسعينات بحث هذا التكتل المتطرف (اليمين المحافظ واليسار الحاقد) عن عدو جديد أطلقوا عليه «محور الشر». ومحور الشر يتألف بحسب تفسيرات بوش من دول ثلاث هي: العراق، إيران وكوريا الشمالية. يضاف إليها أحياناً بعض الدول الأخرى مثل كوبا وسورية. فالمحور كما يبدو وبغض النظر عن أسماء الدول تحول إلى قاعدة سياسية توحد ايديولوجياً كل الأصوليات في الولايات المتحدة.

وانطلاقاً من هذه النزعة الايديولوجية نستطيع أن نفهم الكثير من حروب بوش التي خاضها خلال فترة ولايته الأولى، ونستطيع أن نفهم الكثير من التوجهات الجديدة التي يمكن أن ينساق إليها في ولايته الثانية.

فالمسألة في أساسها أميركية – ايديولوجية عززتها عسكرياً تلك الصناعات الحربية ومؤسسات النقد وشركات الطاقة وهي مجموعة تكتلات (كارتيلات) توحدت لدعم بوش في استراتيجية توسعية (تقويضية) تهدف إلى تغيير خريطة «الشرق الأوسط» لتتناسب مع المصالح الأميركية التي لخصتها كتلة الشر في البنتاغون بنقطتين: أمن النفط وأمن «إسرائيل».

أمن النفط وضمان تدفقه وحماية منابعه ومصباته مفهوم ايديولوجياً (مصلحياً)، بينما أمن «إسرائيل». فهو غير المفهوم ولابد من توضيحه من خلال ا كتشاف تلك الصلة بين المعركة الأخيرة (الخير والشر) التي ستقع في فلسطين وبين دعم «إسرائيل» وتشجيع اليهود من كل العالم للتجمع هناك تمهيداً لحصول تلك المعركة المنتظرة، والمعركة المنتظرة لا يمكن أن تقوم إلا بعد ظهور السيد المخلص (المسيح المنتظر) وهذا لا يظهر إلا بعد أن يتجمع اليهود كلهم في فلسطين.

إنها معركة ايديولوجية (أميركية الطابع والإنتاج) تتداخل فيها مجموعة عناصر ومصالح وعنصريات وأمزجة متنافرة من العصبيات، إلا أن المعركة تعاني الكثير من الضعف والخلل مثلها أية معركة تعتمد على الايديولوجيا لتفسير التاريخ واختراع المستقبل. وأهم عناصر ضعف هذه الرواية المنقولة عن الأصولية الأميركية هي أن معظم اليهود يرفضون العودة إلى فلسطين لبدء المعركة المنتظرة. فالنداءات الأخيرة التي أطلقها أرييل شارون ليهود الأرجنتين وفرنسا وأوروبا وأميركا بداعي نمو مشاعر معادية للسامية (تحديداً في الأرجنتين وفرنسا) لم تلق التجاوب المطلوب بل لاقت الاستغراب وأحياناً الاستهجان من قبل شعوب العالم وأيضاً من فئات واسعة من اليهود.

المعركة الأخيرة مؤجلة إذاً بحسب ما تذهب إليه رواية «الأصولية الأميركية» الجديدة جداً والمحافظة جداً في شقيها اليميني (الانجيلي) واليساري (التروتسكي). وحتى تكتمل شروط تلك المعركة ا لوهمية التي تعتمد على روايات دينية ساذجة وتبسط الأنباء الانجيلية بطريقة سطحية يمكن أن نسأل: ماذا يمكن أ ن يفعل بوش في ولايته الثانية؟

بداية لابد من الاستخفاف بتلك الايديولوجية الساذجة والسطحية. فهي ساذجة عقلياً وسطحية واقعياً ولكن هناك الملايين من الأميركيين يؤمنون بها. وهؤلاء انساقوا كالقطعان البشرية للتصويت لبوش ظناً منهم أنه «الرجل المختار» وهي من سيقود الغرب لخوض معركة الخير ضد الشر (الشرق). وخطورة هذه الايديولوجية الرخيصة والمجنونة انها تلاقي شعبية واستعداداً عند الناخب الأميركي لتحدي رغبة العالم والتصويت للمرشح الذي وعده بالمزيد من الحروب ومحاربة المرشح الذ وعده بالتصالح مع العالم وبسياسة براغماتية متصالحة مع الواقع وأكثر انفتاحاً وتسامحاً.

إلى ذلك استغل الحزب الجمهوري هذه النزعة الأصولية الجديدة واستخدم قدرات ما يسمى بـ «التحالف المسيحي» لحشد القوى وراء مرشح فاشل في سياساته الاقتصادية (الداخلية) وحروبه الخارجية التي لم تحقق حتى الآن الأهداف المرجوة منها. هذا الحزب الآن تحول إلى وعاء يستوعب في داخله مجموعة من المصالح المتنافرة تجمع الأصولي الديني مع الأصولي اليساري مع مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة... وكل هذه العناصر تشجع بوش على المغامرة والاستمرار في سياسته التقويضية من دون اكتراث بمصالح العالم وحياة الشعوب. هناك إذاً ملصحلة أميركية في مواصلة تلك الاستراتيجية وهي مصلحة صوت إلى جانبها الناخب حين توجه إلى صناديق الاقتراع يوم الثلثاء الموافق 2 نوفمبر/ تشرين الثاني. ولكن هل تستطيع أميركا فعلاً أن تبرمج ميدانياً تلك المصلحة وتترجمها إلى سلسلة «حروب دائمة» من دون وعي لمخاطرها الكبرى واحتمال تدميرها للكثير من مواقع النفوذ التي تعتمد عليها الولايات المتحدة كمصادر دخل ومراكز قوة وطاقة؟

هذا سؤال وجوابه يرتبط إلى حد كبير بالرئيس بوش وماذا فهم من الرسالة التي بعثها إليه الناخب الأميركي؟ المسألة الآن خرجت من صناديق الاقتراع وتحولت إلى ورقة تدرس خطوطها ولغتها حلقات ودوائر تشارك الرئيس في صنع القرار.

والقرار الاميركي لابد له أن يمر في مجموعة محطات وهيئات وهذا بدوره يعتمد على نوعية الطاقم الذي سيختاره الرئيس الفائز في ولايته الثانية، فإذا طرد المعتدلين نسبياً (كولن باول مثلاً) وزاد من كمية المتطرفين الأشرار فمعنى ذلك أن بوش قرر استكمال ما بدأه في ولايته الأولى. وإذا طرد المعتدلين فمعنى ذلك ان بوش بدأ يتغير ويريد أن يعطي صورة مختلفة عن شخصيته وسيرته.

خطاب بوش الذي ألقاه بمناسبة فوزه حمال أوجه فهو تحدث عن رغبته في إعطاء اهتمامه للشأن الداخلي (الاقتصاد، الصحة، الضمانات الاجتماعية وتأمين الوظائف)، وتحدث أيضاً عن استكمال معركته ضد الارهاب وتنفيذ المهمة التي أرادها من حربه على أفغانستان والعراق.

خطاب بوش يمكن تفسيره على المستويين: الأعتدال والتطرف، إلا أن الواقعي في الموضوع أن الرئيس المنتخب لا يستطيع تجاهل الملايين التي اقترعت لمصلحته (52 في المئة) ولا تجاهل تلك الملايين التي صوتت ضده (48 في المئة). فهناك انقسام لابد أن يراعي حدوده السياسية حتى لا تظهر الشقوق في هوية الولايات المتحدة، وتبدأ الشخصية الأميركية بالتفكك من جراء الضربات المتوقع أن تلاقيها قواتها في الخارج.

المسألة خطرة وهي مناصفة بين الخير والشر. والنشر الحقيقي هو أصلاً يقع في الداخل الأميركي الذي انتج هذا المزيج من التحالف الكريه بين العنصريات واخترع أسطورة «الرجل المختار».

وبسبب خطورة المسألة (تاريخياً وايديولوجيا) لابد من التحذير من تلك الأمنيات التي يتفوه بها بعض المثقفين العرب في محطات التلفزة من خلال تحويل بعض الأفكار إلى كلمات لم ينطق بها بوش، وهي أنه سيتغير في ولايته الثانية أو أنه تحرر من سيطرة اليهود وضغوط منظمة «ايباك» وأنه سيعمد إلى حل القضية وبناء دولة فلسطينية.

هذا الكلام الذي يصر بعض المثقفين العرب على اختراعه وتأويله لإرضاء الذات ليس دقيقاً. وعلى الأقل ان بوش لم يذكر مثل هذه الأمنيات العربية ولم يعد بها أي جانب عربي. فالحديث عن دولة فلسطينية غامض فهو مثلاً لم يحدد مساحتها ومكانها وموقعها من الإعراب. مقابل هذه الأوهام العربية (تمنيات مثقفين) لابد أيضاً من التنبيه إلى تلك المخاوف المتوقعة. الاحتمالات سيئة أو انها ترجح الأسوء على الأفضل ولكن المعركة أيضاً ليست سهلة. فالعالم كبير وأكبر من قدرات جيوش أميركا على ضبطها. كذلك فإن معركة الخير ضد «محور الشر» أو ما بقي منه أو ما أضيف إليه ليست بسيطة إلى هذه الدرجة، لأنها في النهاية تحمل معها بذور المغامرة. والمغامرة تعني أن النتائج غير مضمونة واحتمالات الخسائر قد تفوق احتمالات الربح. بين التفاؤل والتشاؤم هناك الحدود الواقعية للسياسة. فما حصل في أميركا مسألة خطيرة وهي تشير إلى نمو نزعة ايديولوجية أصولية متطرفة ولكنها في النهاية محلية الطابع وربما ردة فعل على ظروف مؤقتة. إلا أن هذا الأمر لا يعني أن دبابات بوش وطائرات أميركا ستبدأ معركتها ضد «محور الشر» غداً.

فالمعركة طويلة وهي متعددة الأوجه منها السياسي ومنها الاقتصادي ومنها الدبلوماسي... واخيراً هناك العسكري. والخيار الأخير ليس سهلاً على رغم أن شروطه متوافرة. وفي التحليل الأخير يجب ألا ننسى أن أميركا تحارب نفسها في منطقة نفوذها (الشرق الأوسط).

اختار الناخب الأميركي السيناريو الأسوأ، وبعث الأصوليون الجدد رسالة واضحة إلى العالم من خلال التجديد للرئيس بوش ولاية ثانية.

بقي الجواب عند بوش. فالناخب الأميركي اختاره فماذا اختار هو لنفسه؟ سؤال ينتظر نوعية الطاقم الجديد الذي سيقود إدارة البيت الأبيض في السنوات الأربع المقبلة. وفي النهاية لا يصح إلا الصحيح

العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً