هل من الممكن أن نرتقي في زمننا هذا إلى أعلى المناصب في سلمنا الوظيفي من دون الاضطرار إلى الصبغ والدهان والتودد إلى فلان وعلان من الناس؟ هل بإمكان الفقير لله منا أن يتخلص من خوف المتسلطين على حياتنا ورزقنا وبطشهم وجبروتهم الذي قد يدفع بمن لا يحوز على شيء من اهتمامهم إلى الهاوية أو أقلها كرسي متهالك في سراديب شركاتهم؟! المغزى من الكلام تكشفه هذه الحكاية بجزءيها.
شاب تخرج للتو من الجامعة وحسن حظه - أو سوءه - قاده إلى الالتحاق مباشرة بإحدى المؤسسات الإعلامية، ولا أظن ذلك لسواد عينيه وإنما لأجل جبر خاطر أحد من معارفه ممن يقال إن له مقاماً في تلك المؤسسة وإن كان هذا المقام دونيا بالنظر إلى الجهد الذي يبذله ومدى إخلاصه في عمله، ومقارنة بغيره ممن تبوأوا أعلى المناصب في تلك المؤسسة فقط لأنهم يملكون نوعية من الدهان لا يمكن لأمثال صاحب هذا المقام الدوني أن يحصل عليه... فلكل دهان أصحابه ولكل صاحب مبدأ مكان في الدرك الأسفل!
فرحة هذا الشاب بالعمل كانت لا توصف ومنذ البداية عزم على تكريس كل طاقته لتكوين أرضية صلبة له يستطيع انطلاقا منها أن يرتقي في السلم الوظيفي إلى أن يصل إلى المكان الذي يحب، أو بالأصح لحلم حياته الذي ظن أنه فقده حتى تفتحت له أبواب الأمل من جديد عند هذه الوظيفة الشاقة في عملها والمحبطة في كثير من الأحيان في تقديرها!... منذ البداية صم أذنه عن كل ما يمكن أن يثبط من عزيمته بكلام زملائه أصحاب الباع الطويل في وظيفته نفسها... وفعلاً أثبت جدارته بشهادة الجميع... ولكنها شهادة من نوع آخر... شهادة تحمله مزيداً من المهام وكثيراً من المسئولية لكنها أبداً لا تنطق بكلمة شكر ولا علامة رضا من مرؤوسيه الذين اختفت ملامحهم الإنسانية وراء عنجهية وقساوة هولاكو... لم يستسلم بل حاول الارتقاء وسنحت له الفرصة مرارا ولكنه مع أية محاولة للولوج من باب جديد يقله إلى وظيفة جديدة هي حلمه في الأساس وهي ما يطمح إلى الوصول إليه... مع كل محاولة يجد ذاك المسئول المتعجرف واقفا له بالمرصاد سادا جميع الأبواب في وجهه في الوقت الذي يفتحه (المسئول) وبأوسع ما يكون إلى من هم أقل من صاحبنا مستوى وخبرة ولكنهم يملكون مؤهلات لا يملكها صاحبنا هي أهم بكثير عند مسئوله من الشهادة والعمل المتقن والجهد المبذول الذي حوله إلى (حمار شغل) من دون مقابل!
حطم صاحبنا نفسيا ومعنويا حتى فرج الله كربه بالحصول على الوظيفة نفسها ولكن في مؤسسة أخرى لم يتردد أبدا في الانضمام إليها ومن دون شروط، ولم لا فكل ما أراده وقتها أن يفر بجلده من بيئة وحوش ضارية، الضعفاء أمثاله فيها فريسة سهلة الأكل من دون ذكر اسم الله عليها! بذل جهده، ومقابله حصل على ما لم يحصل عليه على مدار سنوات في عمله السابق... كلمة شكر من أعلى مسئول في تلك المؤسسة!... ضاعف جهده فحصل على مكافأة مادية مع كلمات شكر وتقدير جعلته يستحي من أخذ المبلغ... تشجع وزاد حماسه بل وتحسنت إنتاجيته فكوفئ بزيادة راتبه مع خالص التقدير لجهوده في رقي العمل فأخذ وعدا على نفسه ببذل مجهود أكبر وأكبر... حتى أصبحت هذه المؤسسة بمن ينضوي تحت لوائها دارا لصاحبنا لا يجد بدا من الدفاع عنها والارتقاء بها إلى أعلى المستويات... وهذه الدار بدورها لم تبخل عليه بأي شيء حتى أنها حققت حلمه بالوظيفة التي يتمنى فأثبت جدارته فيها وحاز إعجاب وتقدير الجميع حتى سمع بصيته جبابرة عمله السابق فاستغربوا إمكاناته وقدراته وحاولوا استمالته من جديد... ولكن هيهات أن يبيع صاحبنا من اشتروه ليشتري من باعوه بل وسلخوا جلده من دون رحمة ولا عطف!
خلصت حكاية صاحبنا لتبدأ مع نهايتها أسئلتنا: متى سنتخلص من البيروقراطية المسيطرة على مؤسساتنا التي حولت إلى أوكار للإداريين الفاسدين الذين سلبونا حقوقنا؟ متى سيتخلص الرؤساء من عنجهيتهم التي جردتنا من أحلامنا وطموحاتنا بل وقدراتنا وطاقاتنا؟ متى ستحل الكلمة الطيبة محل الأوامر والنواهي والنهر والتهديد على ألسن من نقع نحن تحت إمرتهم فنتشجع على إخراج ما في جعبتنا فتزيد بذلك إنتاجيتنا في العمل وبأعلى جودة ويعم الخير البلاد والعباد؟
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 792 - الجمعة 05 نوفمبر 2004م الموافق 22 رمضان 1425هـ