قرأت المسودة المقترحة لقانون تنظيم التجمعات والمسيرات الذي طرحته الحكومة تمهيداً لعرضه على المجلس النيابي، هذا القانون إذا تم إقراره فسيعني قراءة الفاتحة على الحركة الثقافية والسياسية التي انتعشت في البحرين في السنوات الثلاث الأخيرة، بعد مرحلة القمع الأمني الذي سادتها طوال ثلاثة عقود. فهذا القانون يعني في ما يعنيه أن كل ندوة ومحاضرة وتجمع ثقافي أو سياسي ستخضع لموافقة المحافظ. ولكم أن تتصوروا أنه تعقد يومياً في البحرين عشرات الندوات والمحاضرات والتجمعات السياسية والثقافية، وكلها تحتاج إلى موافقة من لدن المحافظ الذي سيتحول عمله الرئيسي إلى إعطاء أذونات لكل فعالية!
ولأن الكثير من الفعاليات الفكرية والسياسية لا ترضي مزاج حكومتنا التي يزداد مزاجها حرارة يوماً بعد يوم، فإن كل تلك الفعاليات سيكون مصيرها الإلغاء، أو التأخير أو وضع قيود عدة عليها.
إن هذا القانون سيكون أكبر لطمة توجه إلى الحرية الثقافية والسياسية، ومهما قيل عن مبرراته، وما تعيشه البلاد من بعض صور الانفلات الأمني، إلا أنها ليست مبرراً للعودة إلى قانون أمن الدولة بشكل آخر. إن من أكبر الأخطاء القاتلة أن تسيطر الأجواء العامة الوقتية لتبرير سن قانون دائم سيكون خانقاً ومقيداً، وسيحوّل البحرين بأسرها الى سجن جديد. في الحقيقة يذكرني هذا القانون بأيام السجن، إذ الأصل هناك هو الحرمة والمنع، فحتى نقل إبرة من سجين إلى آخر يحتاج إلى أمر وموافقة من الضابط، حتى باتت الكلمة المعروفة عند الشرطة هي «ما فيه أمر» تستخدم عند كل طلب يقدمه السجين. ولا أرى أي فرق بين هذا القانون ووضع السجون سوى أن الضابط سيكون هو المحافظ في هذا القانون، وسيكون المنع سيد الموقف، وخصوصاً مع غياب الضوابط التي تحدد أسباب المنع والموافقة.
إن التحرك الأخير للحكومة لم يكن وليد الساعة، فقد تم التمهيد له من قبل بعض الأقلام التي تنفخ في لجم الحريات، وتعشق أجواء أمن الدولة، فهي كالخفافيش لا تستطيع الطيران إلا في الظلام، وحين يأتي النهار لا تستطيع التحرك والتنافس مع طيور النهار. لقد أعطت أجواء الحرية النسبية دفعة قوية لانطلاق الطاقات بعد الكبت الطويل، وهذه الانطلاقة أوجدت في الساحة حراكاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً جميلاً، وبزغت فيه شخصيات متنوعة لم تكن قادرة على التحرك سابقاً، وإذا ما كتب لهذا القانون أن يسير فسيعيد كبتها من جديد. إن النواب الذين سيطرح عليهم القانون للتصويت مسئولون أمام الله والتاريخ والوطن في حال تشجيعهم وتمريرهم لمثل هذا القانون السيئ.
إن الوضع الحالي لقانون العقوبات هو وحده كاف للحكومة لاعتقال وتوجيه التهم بسهولة إلى كل من تسوّل له نفسه مخالفتها، وإذا ما أضيف إليه هذا القانون فسيقتل الفعاليات من أصلها. الغريب أن الداخلية كانت تصم سمعها، وتغلق عينها حين تتعطل حركة المرور بالساعات بسبب المباريات الكروية، وبعض الفعاليات الأخرى، ولكن المسيرات الأخيرة أصبحت في نظرها معرقلة للمرور ومؤذية للناس، بحيث يستحق من شارك فيها سبعاً وعشرين سنة من السجن!
هذا الكيل بمكيالين، و«باؤهم تجر وباء الآخرين لا تجر» لن يخدم البلد وأمنه، بل سيفتح أبواب جهنم بأوسعها، وستكون الحكومة بسنها لهذا القانون مشجعة لدوامة العنف والمواجهات، لأن دائرة الاختناق ستزداد في ظل وضع اقتصادي سيئ يعيشه الكثير من المواطنين، ولن يجد الشباب المأزوم فرصته إلا في دولاب العنف كي يعبّر عن آرائه وضيقه.
إن أمن هذا الوطن لا يتحقق بالقيود وكثرة القوانين الكابتة للحريات، بل على العكس بمزيد من الحريات، ومزيد من حركة الإصلاح الاقتصادي، والشفافية ووقف التمييز، وحل الملفات الوطنية العالقة. نسأل الله لهذا الوطن السلامة والحرية والعافية
العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ