العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ

عليٌّ في ذكراه

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

رحل عن الدنيا في مثل هذا اليوم ذلك النور الباذخ وترك قلوب الأيتام ملتاعة. رجلٌ جاء إلى الدنيا على أجنحة الملائكة، واستضافت الكعبة مولده ليبقى شاهداً على الدنيا على مرّ العصور... حتى سقط في محراب المسجد وهو يردّد تلك الكلمات الخالدة: «فزت وربّ الكعبة».

ستون عاماً قضاها يمشي في طرقات الدنيا، وهو يحمل الشعلة المتقدة بين جنبيه لينثر النور. كان فارس الثورة الجديدة، عندما كان يعود من الغزوات كانت تأتيه الزهراء تلتقط سيفه لتغسل عنه دماء فرسان العرب وذؤبانها.

غفت الدنيا ربعَ قرنٍ أضاعت فيه عقلها في زمن التيه، فلمّا صحت تدفقت على بابه الجماهير الضائعة تلتمس منه أن يقود السفينة إلى المرفأ وبر الأمان، فقال لهم: «دعوني والتمسوا غيري»، وتحت الالحاح قَبِلَ حمل المهمة التي تنوء بها الجبال الراسيات، بشرط أن يتم الأمر كله تحت الشمس. ومن اليوم الأول كان مشروع حكومته واضحاً: «وايم الله لأنصفن المظلوم من ظالمه ولأقودن الظالم بخزامته، حتى أورده منهل الحق ولو كان كارهاً فلما نهض بالأمر نكثت طائفة ومرقت أخرى وقسط آخرون».

وهو يحكم على خمسين دولة، كان صوتُ الأيتامِ يعذّبه، فقلبه الذي لم يضطرب لقطع رقاب الأبطال، كان يرتعد أمام صوت الاطفال الجياع. يحمل على ظهره دقيقاً وسمناً ليصنع منه خبزاً للأيتام، ويقترب من النار لتلفح وجهه حرارة التنور ويصيح: «اللهم اغفر لعلي». حتى العسل والحلوى يؤثرهم به، حتى تمنّت أجيالٌ ممن عبروا في هذه الدنيا أن لو كانوا من أيتام ذلك العهد العطوف.

إذا جاءته غنائم الفتح جمع الناس وأخذ يوزعها على الجميع مبتدئاً بالفقير، فإذا فرغ من التوزيع كنس بيت المال وغسله بالماء ثم صلّى فيه ركعتين، يقول للتاريخ كيف تكون الشفافية وكيف تكون النزاهة في أعظم التجليات.

لم تكن لرفاق الدرب الطويل من المهاجرين والأنصار في شرعته امتيازاتٌ ترفعهم على العبيد والاعاجم والفقراء مقدار بوصة. جاءه أحدهم طامعاً بإحدى الولايات ليلاً، فأطفأ الشمعة لأنها من مال المسلمين واستعد لسماعه في الظلام، فلم يُطِل طالبُ الدنيا الجلوس... فإذا كانت هذه البداية فكيف يكون الختام؟

دخل يوماً المسجد وفيه ذلك المجتمع المائج، فسمع جماعةً يتجادلون ويقارنونه بالوالي المتمرد في الشام، فقال: «أنزلني الدهرُ ثم أنزلني ثم أنزلني... حتى قيل عليٌ أفضل من...».

جاءه أخوه الفقير المعوز عقيل يطلب «منحةً» من بيت المال بعيداً عن أعين الناس، مجرد صاعٍ من قمح، فأحمى له حديدة ليعلّم الدنيا كيف يكون العدل والمساواة والإنصاف: «ثكلتك الثواكل يا عقيل... أتئن من حديدةٍ أحماها إنسانها للعبه، وتجرني إلى نارٍ سجّرها جبارها لغضبه»؟

الشاعر المرهف جورج جرداق، قال عنه انه «رجل سبق زمانه»... وأي زمان يا ترى لن يسبقه؟

الشريف الرضي جامع خطبه ورسائله وقطائف بلاغته، لم يتمالك نفسه أمام هذا الذَوْبِ من الفضة الغالية، إلاّ أن يصيح ببيت الفرزدق بن غالب وهو في قمة السكر والانتشاء:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ

إذا كان قد رحل في مثل هذا اليوم قبل 1385 عاماً وترك قلوبَ الأيتامِ ممن ارتووا من شَهْدِه ملتاعةً، فإن الدنيا ستظل ملتاعة إلى الأبد على ذلك الرحيل. قلوبُ طلاّبِ الحق والحقيقة كلها ستظل مفجوعة عبر الدهور. وحقّ لها البكاء الطويل لانطفاء تلك الشعلة وتركه الدنيا نهباً للأشقياء في هذا الديجور الطويل

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً