العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ

نظرية «الجسر» الهيغلية عن العرب

الفكر العربي - الإسلامي بين العقل والنقل (1)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

درج المستشرقون في مقالاتهم على مدح العرب ونقد عقلهم. فالعرب، برأي هذا الرهط من المفكرين، قدموا خدمة جليلة للإنسانية حين أقدموا على نقل الفكر الإغريقي عموماً والفلسفة اليونانية خصوصاً إلى العربية، فأنقذوا البشرية من خسارة كنز كان له تأثيره اللاحق في إطلاق حركة التنوير في أوروبا. والعرب أيضاً، وبكلام الرهط نفسه، هم مجرد جسر ناقل اكتفى بالنقل والترجمة وأحياناً الشرح والتعليق من دون أن يقدم إضافة نوعية. فالعقل الفلسفي العربي، برأي معظم المستشرقين، مجرد تنويع لفظي (كلامي) على الفكر الجدلي اليوناني.

يمكن القول إن النظرية المذكورة ابتدعها هيغل في محاضراته عن «فلسفة التاريخ» و«تاريخ الفلسفة» فهو أول من صاغ تلك المقولة وقام بتأكيدها في مقالاته. فهيغل ليس مستشرقاً لكنه يتميز بنزعة مضادة للشرق انطلاقاً من نظرته التطورية لتقدم الروح الإنسانية المعبر عنها تاريخياً في اندماج الدين بالدولة. فالشرق عند هيغل هو البداية (الطفولة) والغرب هو النهاية (الشيخوخة). والشيخوخة أكثر حكمة وأعمق تجربة من الفترة الأولى التي تتسم بالنزق والمراهقة.

وعن هيغل أخذ المستشرقون نظرتهم تلك وأقاموا عليها الدليل من خلال رؤية استعلائية تنطلق من راهن الغرب المتفوق على واقع الشرق المتخلف. وأحياناً نجد نظرية هيغل مكررة في أكثر من كتاب من دون اسناد أو تحديد مرجعها أو ذكر مصدرها وكأن المسألة أصبحت من البديهيات الثابتة التي لا تحتاج إلى نقد أو مراجعة.

كيف برهن المستشرقون نظرية «الجسر» الناقل عند هيغل؟ قام هؤلاء بتقسيم الفكر العربي (الإسلامي) إلى شطرين ثابتين الأول أطلقوا عليه التيار العقلي (الفلسفي) وأطلقوا على الثاني التيار الفقهي (النصي). فمدحوا الأول نظراً لدعواته التنويرية وهاجموا الثاني بسبب ظلاميته. بعد المدح يأتي الهجاء بذريعة أن المبدعين مجرد ناقلين. فالتيار العقلي الفلسفي برأي هؤلاء لم يقدم الجديد، بل اكتفى بالنقل والترجمة والشرح والتعليق. واستنتجوا أخيراً أن العقل العربي (المسلم) غير مبدع حتى في جانبه العقلي الفلسفي، فقاموا بنقده.

هناك سؤال يتعلق بصحة الفرضية نفسها التي قامت على تقسيم ثنائي جامد بين تيارين، إلى سؤال آخر يتعلق بدقة اختيار الاسماء وتصنيفها ووضعها في لائحة العقل أو في لائحة النص.

فهل صحيح مثلاً أن الكندي والرازي والفارابي وابن سينا في المشرق وابن باجه وابن طفيل وابن رشد في المغرب يمثلون تيار العقل، وما عداهم يمثل تيار النقل؟ فإذا كان الجواب بالإيجاب فإن نظرية هيغل، إلى تنويعات المستشرقين عليها، تكون بالاجمال صحيحة. لأن ما أطلقوا عليه تيار الفلسفة العربية هو في معظم كتاباته اعتمد النقل (النقل عن النصوص اليونانية) ونادراً ما قدم الجديد أو أضاف إلى الفلسفة الإغريقية ما يلفت النظر.

وفي المجال النقدي المذكور قدم ابن خلدون ملاحظة سلبية فائقة الأهمية على ابتكارات التيار الفلسفي العربي وابداعاته، إذ سخر منه واتهمه بالنقل والترجمة الحرفية وقلة الإبداع (النعل على النعل) بينما امتدح التيار الفقهي (الأشعري، الجويني، الغزالي، ابن حزم، وفخرالدين الرازي مثلاً) ووجد فيه الجديد والكثير من التفكير والإبداع. فصاحب المقدمة سبق هيغل بقرون في نقده لقلة إبداع التيار الفلسفي العربي - الإسلامي، ولكنه مدح التيار الفقهي لأنه وجد فيه المدى الأرحب للإبداع.

قامت نزعة الاستشراق وما تبعها بطرد قادة فلاسفة الفقه من سياق التقدم التنويري وأقصته من حقل الإبداع العقلي واختزلت التنوير وحصرته في إطار فقهاء الفلسفة ثم انقلبت عليهم لتأكيد نظرية هيغل عن اللاعقل العربي.

وعلى أساس خطأ تنظيري افتعله هيغل، ومن جاء بعده، قامت النخبة العربية التغريبية بأخذ المقولة وتكرارها من دون تدقيق أو مراجعة وتحولت إلى مسلّمة فكرية ترسخت في العقل العربي المعاصر.

عن النقل والإبداع

والسؤال كيف يمكن تحديد مواصفات «الناقل» أو «المبدع»؟ وما المعيار الذي اعتمده المستشرقون لتصنيف لائحة الاسماء وفرز الناقلين عن المبدعين؟

قام المستشرقون بعملية انتقاء ظالمة فاعتبروا كل من نقل عن الإغريق عموماً، والفلسفة اليونانية خصوصاً، وحاول نقض الشريعة أو التوفيق بينها وبين الحكمة، من خط المبدعين، واعتبروا كل من رفض النقل أو حاجج أو مانع وتمسك بالشريعة من خط الناقلين.

والسؤال: لماذا اعتبر المستشرقون الناقل عن فيتاغوروس وسقراط وافلاطون وأرسطو وبطليموس وهرمس وافلوطين وغيرهم يستحق لقب العقلاني المبدع، بينما من رفض الأمر اسقطوا عنه صفات العقل والإبداع؟

سؤال لم يبذل المستشرقون جهدهم لتقديم جواب مقنع عنه. كل ما فعلوه أنهم حوّلوا نظرية «الجسر» عند هيغل إلى مُسلمة تاريخية لا يجوز المساس بها أو قلبها أو السجال ضدها.

الاستثناءات الوحيدة التي لجأ بعض المستشرقين إليها تعلقت ببعض أعمال الامام الغزالي وابن حزم الاندلسي وأحياناً ابن تيمية وسجالاته النقدية (درء تعارض العقل مع النقل) ضد تيار الأئمة والعلماء أو خط الفلاسفة الذي تأثر بالعقل اليوناني.

إلا أن الاستثناءات لم تعطل القاعدة الثنائية التي ابتكرها المستشرقون اعتماداً على نظرية «الجسر» الهيغلية. فالتقسيم استمر يشطر التاريخ الإسلامي إلى نصفين واستمر معه الانحياز لتيار ضد آخر بناء على تصورات مسبقة أو اسقاطات على واقع تاريخي مغاير.

ونجح المستشرقون، وخصوصاً التيار المتصادم مع خصوصية الحضارات، في التأثير على أجيال من المثقفين العرب من ماركسيين وليبراليين وعلمانيين، وحتى السلفيين، في الأخذ بتلك النظرية وذلك التقسيم الثنائي الجامد. فهناك من اقتبس تلك المنهجية وأعاد بناء مشروعه الخاص في ضوء رؤيتها. وهناك من استلهم منها خطوطها العريضة وأضفى عليها بعض خصوصياته الإنشائية.

أما السلفيون فإنهم اجتهدوا في البحث عن عناصر تلك النظرية المعاصرة في كتب التراث فوجدوا ما يشابهها في بعض مقالات الإسلاميين التي تشير إلى «البدعة» ومخاطرها. فأخذوا بفكرة «البدعة» لنقض فكرة الإبداع، والتأكيد على الاتباع، من دون تمييز بين بدعة ضارة وبدعة نافعة، كما ذهب بعض العلماء والفقهاء.

وهكذا التقى التيار السلفي في بعض خطوطه مع التيار المضاد للسلف في جوانب معينة من نظرية النقل والإبداع، وانتهى الأمر إلى إعادة تجديد الانقسام بين ناقل ومبدع.

والسؤال: هل نستطيع أن نجد فكرة جديدة من دون جذور أو مقدمات مهدت الطريق لبلورتها؟ وهل الأفكار والنظريات ومناهج التحليل والتفكير يمكن اختراعها من دون أن تمر في محطات تطورية زمنية؟

من الصعب أن نقرأ فكرة مستقلة اكتشفت جاهزة من دون تراكمات بطيئة للمعرفة والعلوم والاكتشافات، لأن الناقل ليس مجرد ناقل كذلك المبدع. فالإبداع كالنقل ومن الصعب أن نجد «المبدع» ليس ناقلاً.

ابن رشد، الطبيب والفيلسوف والقاضي، مثلاً، ألّف أكثر من 74 كتاباً أربعة منها من إنتاجه (بداية المجتهد، فصل المقال، مناهج الأدلة، وتهافت التهافت) بينما الأخرى هي شروح وتعليقات على كتابات أرسطو وافلاطون وغيرهما في وقت اعترف بأنه لا يعرف اللسان اليوناني، وأن ما فعله اقتباس ترجمات سابقة للفلسفة اليونانية إلى العربية.

نظرية صلة العصبية بالدولة التي أسس عليها ابن خلدون علم العمران ليست جديدة أيضاً، إذ ورد عنها وحولها الكثير من المقالات في كتب المؤرخين والعلماء المسلمين إلا أن صاحب المقدمة نجح في تحويلها إلى منظومة فكرية متماسكة استخدمها لتفسير التاريخ العمراني - السياسي للدول الإسلامية.

الزركشي في موسوعته عن الفقه الإسلامي (البحر المحيط) استخدم أو استند إلى أكثر من 200 مرجع لتأليف كتابه عن أصول الفقه وعلومه، وتطوره واختلاف مناهجه ومدارسه.

فالإبداع إذاً ليس اختراعاً بالضرورة بل هو في أحيان كثيرة إعادة إنتاج نتاج السابق في سياق مختلف يعكس اللحظة التي كتب فيها المقال. فالراهن هو ا لماضي في معنى من معانيه. والتطور سلسلة لحظات (آنات) متراكمة وليست انقطاعاً عن محطات سابقة.

نعود إلى السؤال: من الناقل ومن المبدع؟ وهل بالإمكان التمييز القطعي بينهما؟

استمر السجال طويلاً بشأن هذه المسألة. والجواب مازال بحاجة إلى بحث. لنأخذ فكر ما يسمى «عصر النهضة» العربية الحديثة التي قيل فيها الكثير عن العقل والنقل فاعتبر من ترجم ديكارت ونيتشيه وداروين ووضع اسمه على أفكار غيره هو المجدد. واعتبر كل من حاول السجال ضد تلك الأفكار مجرد ناقل أو سلفي لا يستوعب تحولات العصر.

إذاً نحن لانزال ندور في الحلقة نفسها نعيد إنتاج المقاييس السالفة ونعمد إلى تركيبها وفق صيغ أو مفردات جديدة في شكلها وعتيقة في مضمونها.

فهل صحيح أن من «سرق» نظرية «النشوء والارتقاء» من كتاب داروين (أصل الأنواع) وقام بتعريبها ووضع اسمه عليها هو المبدع، أم المبدع هو من بذل جهده أو اجتهد للتوفيق بين النظرية المترجمة (عن أوروبا هذه الفترة، واليونان في الماضي)، أو من رفض النظرية وشكك في أصولها وحاول إعادة قراءة النشوء والارتقاء من منظور مختلف؟

المسألة معقدة، لكن التيارات الثلاثة من نتاج فضاء ثقافي واحد على رغم اختلافهم على المصادر والرؤية. هذا نظرياً. أما من الناحية التاريخية فلاشك في أن المترجم لا يعكس بالضرورة نسبة تطور وعي مجتمعه في اللحظة التي وضع فيها فكرته المنقولة أو المنحولة بينما «الموفِّق» أو «الممانع» مهما بلغت درجة نجاحه في نقل فكره ووعيه، هو أقرب إلى الواقع، أي أقرب إلى نقل نسبة تطور مجتمعه في اللحظة التي صاغ فيها رده. فقراءة وعي أمة معينة لا يعتمد بالضرورة على الترجمات بل على الردود عليها وما أحدثته من أفكار مضادة ضد المنقول والمنحول. فالصانع غير القارئ والناقل عن الآخر غير الناظر في الآخر. وهذا ما حصل عندما رد الامام الغزالي على النتاجات الفكرية للفارابي وابن سينا وتناقضاتهما في كتابه «تهافت الفلاسفة». فالغزالي ابن عصره ويعكس بدقة نسبة وعي الأمة وتقدمها آنذاك أكثر بكثير من مقالات الفارابي وابن سينا. لذلك كان تأثيره أقوى بما لا يقاس من التيار الآخر

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 791 - الخميس 04 نوفمبر 2004م الموافق 21 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً