ليس غريباً أن يصل الأمر ببعض شعوب العالم الى أسوأ مما هي عليه الآن من فقر مدقع وانهيار اقتصادي لا تحسد عليه ما دام الاغنياء متخمين بكنوز الأرض على حساب الملايين من الفقراء. تقرير الأمم المتحدة على رغم التحفظ وصقل الأرقام وتلميعها يفيد بأن نصف سكان الكرة الأرضية يعيشون تحت خط الفقر، وهذا يعني ربما ان هناك أكثر من هذه النسبة بكثير، كيف وصل الحال بنا الى هذه المأساة العالمية؟ وما هي الأسباب يا ترى؟ وفي أين يكمن الخلل؟
واذا انتقلنا الى الصعيد المحلي وأمعنّا النظر سنرى المعادلة هي هي، انما الفرق في المساحة، ها هي البحرين بمساحتها الصغيرة ونفطها الوفير تعاني من المشكلة المزمنة ذاتها، الآلاف يعيشون معاناة الرواتب المتدنية والمساكن المكتظة والمهترئة، بينما تجد عشرات الاغنياء يتاجرون باقتصاد البلد وثرواته في بناء ناطحات السحاب! ما الذي يجري؟ ما السر وراء هذه المفارقات الغريبة؟
مقارنة تاريخية
تستوقفنا ذكرى رحيل أمير المؤمنين الامام علي (ع) لنحط الرحال عند هذه الشخصية المثالية والقيادة النموذجية في إدارة الحكم. فعلى رغم المدة القصيرة التي مسك فيها الإمام زمام الخلافة وعلى رغم الظروف القاسية التي مر بها في تلك المرحلة من مواجهة مع الخوارج وحروب مع المارقين والقاسطين والناكثين، فإنه قدم نموذجا تاريخيا دقيقا في معالجة مشكلة الفقر والبطالة، لو تمثلته حكومات العالم في القرن الواحد والعشرين لتمكنت من حصر المشكلة والسيطرة عليها.
تمثلت سياسة الإمام منذ أول لحظة تسلم فيها مقاليد الخلافة في نزع رؤوس الفساد وإزاحة جميع الولاة والمحافظين الذين عرفوا بالفساد الإداري والتلاعب ببيت المال واستبدالهم بالتقاة المشهود لهم بالنزاهة، ولم يكتف بذلك بل أخذ يراقبهم ويوصيهم بتقوى الله والرفق بالفقراء وعدم الاسراف في مؤونتهم وعدم الترفع على الناس، كما كان يؤنبهم كلما سمع عنهم غلظة في كلام أو مماطلة في معاملة، والتاريخ مليء بشواهد عدة على ذلك منها موقفه عندما رأى عجوزا نصرانيا يستجدي فسأل عنه والي تلك المدينة فقال: انه نصراني يا سيدي، فرد عليه الامام غاضبا: يا هذا، ليس في دولة الاسلام فرق في الحقوق بين مسلم أونصراني، «لما كان شاباً (مفتول العضلات) استخدمتموه ولما كبر تركتموه يستجدي؟ اصرفوا له من بيت المال».
قيادة نزيهة لا ترضى بالمحسوبية!
بلغه ان عامله على البصرة عثمان بن حنيف الانصاري دُعي الى وليمة قوم أغنياء من أهل البصرة فلبى الدعوة، ماذا فعل الامام علي (ع)؟ كتب اليه: «أما بعد يابن حنيف، فقد بلغني ان رجلا من فتية أهل البصرة دعاك الى مأدبة فأسرعت اليها تُستطاب لك الألوان وتُنقل اليك الجفان، وما ظننت انك تجيب الى طعام قوم عائلهم مجفوّ وغنيّهم مدعو. فانظر الى ما تقضمه من هذا المقضم ، فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه».
هكذا كان أبوتراب... شديد على ولاته ومسئوليه رؤوفا بالفقراء وعامة الناس. ولم يكن على الولاة شديداً فحسب بل حتى على أهله ونفسه. فهو القائل لما أتاه ابن عمه عقيل طالبا بعض الزيادة في حصته من بيت المال ليعول أبناءه:
«والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحني في بركم صاعا، ورأيت صبيانه شُعث الشعور غُبر الالوان في فقرهم (...) فظن أني أبيعه ديني وأتبع قياده مفارقا طريقي، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها فضج ضجيج ذي دنف من ألمها. وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل! أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه؟ وتجرني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه؟».
أما عن نفسه فيقول علي (ع): «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، وان دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها»، ثم يضرب لنا مثالا رائعا في تواضع الحاكم وزهده على رغم ما تحت يده من أموال الدنيا، فيقول: «ولو شئت لاهتديت الطريق الى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات يغلبني هواي ويقودني جشعي الى تخيّر الاطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مِبْطاناً وحولي بطون غَرْثى (جائعة) وأكباد حَرّى (ملتهبة من حرارة الجوع) أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء ان تبيت ببطنة
وحولك أكباد تحن الى القدِّ
هكذا تصلح السوق وينجلي الفقر...
ماذا لو طبقت حكومات العالم بعضا من هذه المنهجية المثلى؟ وماذا لو زُحزح الفاسدون عن مناصبهم، وأرجعت الحقوق والأراضي الى أصحابها؟ ماذا لو نفذنا قاعدة «من أين لك هذا»؟ هل سيبقى الفقر المدقع على ما هو عليه أم سيشم الفقراء أريج الحرية وسينعمون بقوت يومهم؟ تصلح السوق كلما صلحت الإدارة ونظفت واذا فسدت الإدارة (لا سمح الله) فلن نجني الا كساداً وبواراً. هذا ما نتعلمه من علي (ع) ومنهجيته الاقتصادية في هذه الأيام الرمضانية
إقرأ أيضا لـ "عبدالله الميرزا"العدد 790 - الأربعاء 03 نوفمبر 2004م الموافق 20 رمضان 1425هـ