«إن الدفاع عن الديمقراطية، يعني مهاجمة معاداة السامية وهزيمة الأشرار الذين يعادون اليهود». هكذا ترجم الرئيس الأميركي جورج بوش الابن، مفهومه لمعاداة السامية، ومنهاجه في محاربتها باسم القوة الأعظم في العالم، وليس الهدف إلا استعطاف «إسرائيل» واسترضاء اللوبي الصهيوني في أميركا وأوروبا، بعد أن تم اختصار «السامية» في اليهود وحدهم، من دون غيرهم من الشعوب السامية، وفي المقدمة الشعوب العربية.
ولاشك في أننا أصبحنا أمام مواجهة ساخنة جديدة، تهددنا بكثير من العواقب وكثير من العقوبات، وتنتهك بشكل مباشر حرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة التي نعمل نحن على تأسيسها وترسيخها في بلادنا، بعد غياب طويل، بينما تعمل أميركا على انتهاكها ومصادرتها، طالما أنها لا تخدم أهدافها وأفكارها وقواتها ومصالحها.
وفي الوقت الذي تتحرك كل القوى الحية في المجتمعات العربية، هذه الأيام طلباً للحرية وسعياً لإصلاح ديمقراطي حقيقي، يستجيب للمطالب الوطنية، تدخل السياسات الأميركية وبعض الأوروبية، المتقاطعة، على الخط لتربك الموقف، بل لتعطي الحكومات المتشبثة بالسلطة المطلقة، فرصة ذهبية للتهرب من مطالب الإصلاح الديمقراطي... فكيف كان ذلك!!
في الثامن من الشهر الماضي 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2004، وافق الكونغرس الأميركي بشكل نهائي على قانون متابعة معاداة السامية في العالم، وبعد ثمانية أيام فقط، وفي 16 من الشهر نفسه، سارع الرئيس بوش بالتصديق عليه، ليصبح نافذاً وملزماً للإدارة الأميركية بكل فروعها وسياساتها وأجهزتها.
وإذا كان لافتاً للنظر «الاستعجال» الذي أنجز به الكونغرس هذا القانون الغريب، و«استعجال الاستعجال» الذي صدق به الرئيس عليه، استرضاء لـ «إسرائيل» والعصابة الشارونية، واللوبي الصهيوني وجماعات المحافظين الجدد الأميركيين، فإن اللافت للنظر والجاذب للانتباه حقاً، هو هدف القانون من ناحية، وآليات عمل وتطبيقات على دول العالم «المستقلة» من ناحية أخرى.
إن هدف القانون الأميركي هو مراقبة حركات ودعوات معاداة السامية ومضايقة اليهود بل وانتقاد سياسات «إسرائيل»، في دول العالم المختلفة، ورصدها ومتابعة ممارسيها، وإعداد تقارير سنوية عنها، وتصنيف الدول المختلفة وفق هذه الممارسات ومدى التصدي لها أو السماح بها، ومن ثم تحديد موقف أميركا منها، سواء بمقاطعتها ومعاقبتها وفرض العقوبات السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضاً عليها، أو بمساعدتها ومناصرتها ترغيباً وترهيباً!
وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف، نص القانون على إنشاء ثلاث آليات للتنفيذ والمتابعة، أولاً إنشاء إدارة جديدة في وزارة الخارجية الأميركية، للمتابعة وجمع المعلومات عبر السفارات والمصادر المختلفة. وثانياً تعيين مبعوث أميركي عالي المستوى لمراقبة تنفيذ القانون، وثالثاً إصدار تقرير سنوي عن معاداة السامية في دول العالم، مثل تقرير حقوق الإنسان والحريات الدينية.
واعتباراً من تاريخ تصديق بوش على هذا القانون، الذي قدمه للكونغرس العضو توم لانتوس الصهيوني الشهير الذي يتردد كثيراً على العواصم العربية، على رغم مجاهرته بالعداء للعرب والمسلمين، فإن على كل عربي عموماً، وعلى كل مصري خصوصاً من أجل العداء التاريخي، الحذر من نطق كلمة، أو الوقوع في زلة لسان، أو الإدلاء بحديث أو رسم كاريكاتير، يفهم منه بأي شكل من الأشكال في التفسير الأميركي، أنه يسيء لليهود أو يمثل درجة من درجات معاداة السامية، وبالتالي يغضب «إسرائيل» وعصابتها الشارونية العدائية، وامتداداتها التحالفية في أميركا وفي مناطق أخرى، أوروبية وعربية أيضاً!
وهكذا تضيف الإدارة الأميركية الخاضعة لتحالف المحافظين الجدد المتطرفين ومنظمات اللوبي الصهيوني و«إسرائيل»، قانوناً قهرياً جديداً، يعبر عن فكر متغطرس عدواني النزعة يصل إلى درجة متقدمة من العنصرية الدينية، ليضاف إلى قانون سبقه وبات تحت الممارسة منذ سنوات، ونعني قانون مراقبة الحريات الدينية في دول العالم، وإلى قانون ثالث هو «القانون الوطني باتريوت آكت» الذي فرض بعد هجمات سبتمبر/ أيلول الدامية، لينتهك بعنف الحريات المدنية ليس فقط للمواطنين الأميركيين، وخصوصاً من العرب والمسلمين، بل ينتهك حريات الأجانب الذين يزورون أو يمرون عبر الولايات المتحدة، ويخضعهم مباشرة لشبهة الارهاب بلا أدلة ثبوتية.
ولم يعد صحيحاً تماماً القول إن ملابسات صدور هذا القانون القهري، جاءت في إطار حملة الانتخابات الأميركية، والمزايدة التي كانت ملتهبة بين بوش ومنافسه كيري، استجلاباً لتأييد أصوات «القوة اليهودية - 6 ملايين يهودي أميركي»، إنما الصحيح أن القانون صدر عن انتفاع من جانب المشرعين في الكونغرس بمجلسيه النواب والشيوخ، ومن جانب إدارة الرئيس بوش، وتعبيراً عن سياسة أميركية استراتيجية ثابتة، تقوم على حماية «إسرائيل» وضمان أمنها، تماماً مثل ضمان الأمن القومي الأميركي، ولم يحدث في التاريخ أن اتخذت أميركا خطوة أو أصدرت قانوناً أو قراراً لدعم «إسرائيل»، وتراجعت عنه، أو حتى تراخت في تنفيذه.
وبقدر ما أن قانون مراقبة ومتابعة معاداة السامية، جاء ليحقق واحدة من أغلى أماني «إسرائيل»، فإنه في الحقيقة، سيفجر ثلاثة تحديات مناوئة للسياسة الأميركية في العالم عموماً وفي العالمين العربي والإسلامي خصوصاً وهي:
1- انه يخون صراحة وبعنف المبدأ الرئيسي من المبادئ الديمقراطية، التي تدعي أميركا أنها تعمل على نشرها وترويجها، وهو مبدأ حرية الرأي والتعبير والصحافة والاعتقاد، في تناقض فظ على المبادئ الدستورية الأميركية من ناحية، وعلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ناحية أخرى.
2- انه يزيد صورة الولايات المتحدة الأميركية في العالم العربي سوءًا وسوادا، ويدفع بموجات الكراهية إلى الأمام، بل ويهدد مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، التي قامت النظم العربية الحاكمة على حمايتها طوال أكثر من قرن، لأنه يسوي في النهاية بين أميركا و«إسرائيل» تسوية كاملة، على رغم كل جهود تحالف المتأمركين العرب في تزويد الصورة وتلميع معالمها الكئيبة!
3- انه يستفز، ليس العرب وحدهم باعتبارهم أول المتهمين، بل ويستفز أيضاً المشاعر المعادية لأميركا في دول العالم المختلفة، التي ستخضع من الآن فصاعداً للمراقبة والتفتيش وربما المعاقبة والحصار، طبقاً لموقفها من «معاداة السامية»، تماماً مثلما تخضع أكثر من 192 دولة فعلاً لمراقبة قانون الحريات الدينية الأميركي!
وذلك تتحول الإدارة الامبراطورية الأميركية من مجرد شرطي لفرض النظام الذي تريده، إلى مبتز مسلح عسكري يفرض أفكاره وعقائده بقوة السلاح وبقهر العقوبات، وهو أمر مذل ومهين لكل الشعوب!
وإذا كان عدد كبير من السياسيين والكتاب والمبدعين والفنانين العرب، ومن بينهم كاتب هذه السطور، قد تعرض لكثير من المضايقات في الفترة الماضية، بسبب مواقفهم وآرائهم المعادية للسياسات الإسرائيلية العدوانية، وسط خلط متعمد ومضلل بين «إسرائيل» كدولة واليهودية كدين، وبين الصهيونية كعقيدة سياسية عنصرية وبين يهود العالم كبشر، فإن المرحلة المقبلة بعد صدور القانون الأميركي، ستحمل الأسوأ، مثلاً في تحويل المضايقات إلى عقوبات قاسية ومباشرة على الدول والأفراد والجماعات!
وعن مصر بالذات، صحافتها وفنونها وكتابها تحديداً، ملفات متراكمة أعدتها منظمات اللوبي الصهيوني الأميركي، والجماعات الحليفة لـ «إسرائيل» تحوي آلاف المقالات والرسوم والتصريحات التي تصنفها هذه المنظمات على أنها «معاداة للسامية»، ونعرف جميعاً أنه ما من وفد أميركي زار مصر خلال السنوات الأخيرة، إلا وقدم مثل هذه الملفات - احتجاجاً - لكبار المسئولين المصريين، بمن فيهم الرئيس مبارك، طالباً مصادرة هذا الهاجس المحدود من حرية الرأي والتعبير، على نقيض الدعوات الأميركية بشأن الإصلاح الديمقراطي!
ولعلني لم أشر في النهاية إلى أن خطورة القانون الأميركي هذا، بدأت تؤتي ثمارها السمحة في حدائق الحرية الأوروبية، وعلى وجه السرعة، ففي ظل تزايد ما يسمى موجات معاداة السامية في بعض الدول الأوروبية، واستلهاماً للقانون الأميركي القهري، بدأت جهود حثيثة في ألمانيا لسن تشريعات عنيفة «بحجة إيقاف عودة معاداة السامية» بين الألمان وبين الهجرات العربية والإسلامية»، المتزايدة عدداً وتأثيراً، والمهتمة دوماً بأنها معادية للسامية لمجرد أنها تعادي عدوان «إسرائيل» الوحشي على الشعب الفلسطيني! وبالموازاة، أصبح اليوم أمام الجمعية الوطنية الفرنسية، البرلمان، مشروع قانون لمكافحة معاداة السامية، يقوم على أساس ما يعرف بـ «تقرير جان كريستوف روفران» الذي يرصد تصاعد حالات معاداة السامية، ويدعو لتجريم دعواتها وخصوصاً عبر أجهزة الإعلام والتعليم والثقافة!
ولن يطول بنا الوقت لنشهد صدور قوانين مماثلة في الدولة الأوروبية، تسير حذو النعل، بالنعل، وراء القانون الأميركي المشبوه، لتدفع ثمنه القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني المقتول بومياً، وليضعنا جميعاً في دائرة الاشتباه بمعاداة السامية، بعد فشل الاشتباه بدعم الارهاب!
الأمر إذاً جد خطير، لا يحتمل التكامل والتجاهل والتغابي، وخصوصاً أن حكوماتنا الرشيدة لم تحرك ساكناً، ولم يصدر عنها حتى اللحظة أي رد فعل، على قوانين وسياسات تهددها مباشرة، وتنتقص من سيادتها وتنتهك حرية مواطنيها، وتفرض حماية مطلقة على سياسة الإدارة الإسرائيلية ضد الشعب العربي الفلسطيني.
ولذلك فالمبادرة مطلوبة بشكل عاجل من جانب منظمات المجتمع المدني العربي، لتجتمع وتنسق وتتحرك، ليس فقط دفاعاً عن الحقوق العربية والفلسطينية التي يغتصبها العدو الصهيوني في ظل الحماية الأميركية، بل كذلك دفاعاً عن أحلامنا في تحقيق إصلاح ديمقراطي وطني، يطلق الحريات العامة ويصون الاستقلال ويحافظ على السيادة الوطنية والقومية.
وليس أخطر على هذه الأحلام العربية، من أوهام الغطرسة الصهيونية الأميركية، التي تغتصب منا الأمن والحرية، بعد أن داهمتنا بالأمس بحروب الارهاب، وتداهمنا اليوم بحروب معاداة السامية... باسم الديمقراطية... الكاذبة!
خير الكلام
من ديوان العرب:
وما ضرني أن قالَ أخطأتَ، جاهلٌ
إذا قال كلُ الناسِ أنتَ مصيب
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 790 - الأربعاء 03 نوفمبر 2004م الموافق 20 رمضان 1425هـ