اللغة تقدمنا الى الناس قبل أسمائنا... نتكلم أمام بشر نلتقي بهم للمرة الأولى وكأننا نحمل إليهم أسماءنا وتواريخنا لمجرد أن نتكلم... يكوّنون صورة مقرّبة عنا ويختزلون في ذاكرتهم تاريخًا مرتبطًا بنا من دون أن يعرفونا... من دون أن نلتقي بهم قبل هذه اللحظة.
لذلك تحضر مقولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «المرء مخبوء تحت لسانه، لا تحت طيلسانه». إذ لا تقدمنا ملابسنا أو عطورنا أو ماركات الساعات التي تزيّن معاصمنا أو السيارات الفارهة، فما يقدمنا الى الناس وبصورتنا الحقيقية وبلا رتوش أو إضافات أو مساحيق، هي اللغة التي نتواصل بها مع البشر من حولنا، وليست اللغة من حيث هو نظام إشارات أو اتصال مرتبط بالرمز أو الأبجدية، بقدر ما هي نظام اتصال في اختزال ما نريد قوله في أقل قدر من الكلام وأعمقه. هي في استشراف اللغة لمستويات ما يدور من حوار ضروري وملحّ مما يجب أن يحضر ويسود ويقال.
وحين تتحول اللغة الى استعراض للعلاقات يسهم صاحبها من حيث يريد أولا يريد في تأكيد طغيان القشر وتغييب العمق/اللب/الجوهر... فالعلاقات لا تحتمل أي نوع من أنواع التصنّع والاستعراض... هي تقوم وتثبت وتتعزّز وتخلد بمزيد من العفوية والصدق والفطرة، من دون خلوّها من عمق.
السياسيون يحتكمون الى لغة التبرير والنفي، وبما يعزّز ويكرّس ما يتطلعون اليه من أهداف، وبعض الدينيين الموتورين من حركة الحياة وانفلاتها يحتكمون الى لغة يعتقدون أنها ستعيد نصاب ذلك الانفلات الى حال من التوازن... والعبثيون يتركون اللغة في مهب من المتاهات واللاجهات ... والوجوديون يعزفون على وتر «محورية الانسان في هذا الوجود» بغض النظر عن طبيعة السلوك الذي يخرج به الى العالم الذي يحياه، فيما واقع عربي منهار يتعاطى مع اللغة باعتبارها واحدًا من الخلاصات التي دائمًا ما تغيب.
هل هو تمامًا ما رمى إليه حائز نوبل للآداب العام 1998، البرتغالي خوزيه سارماغو، حين أشار الى «ان اللغة تكاد تموت كل يوم»؟. ولا يحدث ذلك إلا بتقديمها على أنها تمثلنا... تمثل صورتنا... أسماءنا... وربما تاريخنا، فيما هي على النقيض من ذلك
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 790 - الأربعاء 03 نوفمبر 2004م الموافق 20 رمضان 1425هـ