في لعبة كرة القدم، هناك قوانين لا يمكن للفريقين تخطيها، من أهمها عدم تجاوز خطوط الفريق الآخر، وهو ما يعرف بالتسلل. فإذا حاول أحد اللاعبين التسلل «مسكه» حكم المباراة. وفي السياسة هناك طرق عدة للتسلل، حريٌ بأطراف اللعبة السياسية في البلد عدم تجاوزها، لكن المشكلات تحدث عندما يتجاوز أحد اللاعبين خطوط الفريق الآخر ويسجل عليه هدفاً بالغش والاحتيال!
والبحرين ليست بحاجة اليوم إلى إصدار قوانين جديدة، تستلّ خيوطها من مخلفات قانون «أمن الدولة»، فما ورثته البلاد من ركام قوانين الحقبة السابقة ليس قليلاً بأي مقياس، وهي تركة ثقيلة ينوء بها ظهر البحرين، وكثيراً ما صدرت النداءات المخلصة للتخفّف منها ومن تبعاتها. بل أن اللجوء بين فينةٍ وأخرى إلى بعض هذا الركام، وخصوصاً أوقات الأزمات العابرة، إنما يدلّ على ترددٍ وعدم ثقةٍ بالنفس في السير على طريق الإصلاح.
من جانب آخر، ما يجري من مناقشة قوانين يقال إنها «جديدة»، إنما هي عملية «إعادة تدوير» لتلك القوانين العتيقة التي صــــــــدرت في ظل تغييب الإرادة الشعبية، يراد من ورائها إسباغ صفة شرعية عليها، وهو «تسللٌ» سياسي مفضوح!
البحرين ليست بحاجة إلى قوانين جديدة، وإنما إلى إجادة «أصول اللعبة» والالتزام بقواعدها في زمن الإصلاح. فلم تكن البحرين تشكو من «نقص» القوانين في الحقبة السابقة، ومع ذلك لم تفلح تلك القوانين المشددة في تجنيب البلاد من الوصول إلى حافة الانفجار في مطلع التسعينات. وحتى لو صدرت القوانين تحت قبة البرلمان، وألبسها النواب الحاليون الغترة والعقال، و«البشت» أيضاً!
حساسية حتى من الصابون!
من هنا فإن الدعوات غير الحكيمة التي صدرت عن بعض النواب أو أطلقها بعض الأقلام المعروفة بـ «حميتها» الحكومية الشديدة، حتى أخذوا يغازلون قانون «أمن الدولة» بلا خوفٍ من الله ولا حياء من الناس، لم يكن ذلك إلا عارضاً من عوارض «الحساسية» القديمة. ومرض الحساسية من الأمراض «المزعجة» التي يبتلى بها الكثير من الناس والبلدان أيضاً. وعندما تنتاب النوبة أحد الضحايا فإنه يكاد يخرج من طوره، فتراه يضرب يميناً وشمالاً على غير هدى ولا اتزان. والحساسية لا يعتبرها الأطباء مرضاً أكثر منها «مشكلة» تتعلق بالموسم أو الكائنات الغبارية أو حبوب اللقاح، وحتى البخور والكيماويات ورائحة الصابون. وإذا عرف المريض أسبابها سهل عليه التخلص أو التخفيف منها، وإلا فإنه سيظل يتهم الماء والغذاء والملابس وطابوق المنزل ودهانات النوافذ والأبواب!
بعض نوابنا الأفاضل يريدون أن يجرّبوا في رؤوس هذا الشعب الباحث عن الحرية والعزة والعيش الكريم، دواءً قديماً أثبت فشله على مدار ثلاثين عاماً. وليتهم يعلمون انه مهما شرعوا من قوانين غير متزنة فإنها لن ترقى إلى مستوى قانون «أمن الدولة» العتيد الشديد. وكم تمنيت لو انهم استوعبوا تجارب الماضي القريب، فيوفّروا على أنفسهم هذا الوقت الضائع لمناقشة المشكلات المعلقة كالفساد وشبكات الدعارة ومروّجي حبوب «اكستسي»، ويوفّروا على شعب البحرين مآسيَ وآلاماً ودماءً ودموعاً تقرّحت بجريانها آلاف الجفون.
هذا وما تم نشره حتى الآن عن قانون «الاجتماعات العامة والتجمعات والمسيرات»، لا يخلو من حساسيةٍ مفرطة تجاه ما حصل. وإذا كنا نلوم لجنة مناصرة الخواجة على التصعيد في حركتها الاحتجاجية، وما أدت إليه من تداعيات وأفعال غير مقبولة، فإننا نلوم أيضاً الجانب الرسمي الذي يفترض انه يمتلك الكثير من الحكمة والتريث في مرحلة الإصلاح، قبل أن يقدم على اتخاذ خطوات لا تقل عن الخطوات التي كانت سائدة في عهد «أمن الدولة». وما هذا القانون المزمع تقديمه إلى مجلس النواب إلا أوضح مثال على «رد الفعل» المبالغ فيه تجاه ما حدث. فحتى في العهد السابق لم تكن أسس اللعبة تفرض طلب ترخيص من المحافظ، كما أن اللعبة لم تكن تحظر الدعوة إلى «أي اجتماع عام أو إعلانه أو إذاعة نبأ عنه قبل الحصول على هذا الترخيص» المقدس! والبدعة الأكبر انه يعطي لقوات الأمن حق منع أو فض أي اجتماع عام لم يرخص. وهو بالتالي يضع مسئولية تقدير الموقف بأيدٍ يفتقر الكثير من منتسبي الدرجات الدنيا فيها إلى إجادة اللغة العربية، وما يعنيه ذلك من سهولة الانفلات الأمني في الأوقات الحرجة بالذات، إذ ترتفع درجة التوتر في الشارع بين الطرفين.
مرة أخرى، البحرين ليست بحاجة إلى قوانين أمنية جديدة، وإنما إلى معرفة أسباب العلل، لكن... أين الطبيب الماهر وسط هذه الضجة العالية؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 789 - الثلثاء 02 نوفمبر 2004م الموافق 19 رمضان 1425هـ