ها ان الجميع يؤكد ادانته للتصعيد الذي شهدته البلاد خلال الايام القليلة الماضية، وها ان الجميع يؤكد ان التجريح والتطاول الشخصي مرفوض رفضاً قاطعاً ولا يليق بآداب وتقاليد العمل السياسي في مجتمع تسوده حرية التعبير. وها ان الجميع يرى ان ثمة خلطاً كبيراً بين المطالبة وعدالة المطلب أياً كان هذا المطلب وبين اسلوب التعبير عنه. لكن في غمرة هذا كله علينا ان نبحث في الاسباب التي تسهم في وقوع مثل هذا التصعيد الذي لا يخدم العمل من أجل المستقبل.
نحن متوترون على كل الصعد، ذهنياً ونفسياً لأن هناك ذهنية وحالاً من التربص تشمل الجميع رسمياً وشعبياً، وانفعال لا يليق بالعقلاء. هناك استعداد للتحشيد ولكل اشكال الاستقطابات الطائفية واستعداد نفسي كامن للانسياق وراء الشحن اكثر من التعاطي العقلاني. علينا ان نبحث في هذه الاستعداد الكامن وحال التوتر النفسي التي نحياها بحيث يضيع صوت العقل والقدرة على التمييز بين الخطأ والصواب الى الدرجة التي يصبح فيها العقلاء مكبلين أمام هذا الاندفاع للشحن والعنف اللفظي والاستقطاب.
هناك مشكلات معلقة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وحالاً معيشية صعبة. وهناك انتقادات للاداء الحكومي وأداء البرلمان وأداء التيارات السياسية. هناك نوع من المراوحة والتباطؤ في السير قدماً في الاصلاحات. وهذا يمكن تلمسه دون مشقة من اي نوع من الاداء الحكومي نفسه سواء فيما يتعلق بالقوانين اللازمة لتهيئة الارضية المناسبة للتحول الديمقراطي وترسيخ هذه التحولات كحقيقة يومية معاشة على الارض او فيما يتعلق بالتجاوب مع البرلمان أو التطلعات الشعبية. التيارات السياسية التي تنتقد ضيق صدر الحكومة تمارس الشيء نفسه بسبب حال التوتر والتربص. الكل صدره ضيق بالنقد في النهاية، يؤشر هذا كله الى ان خياراتنا ليست محسومة نهائية في الوجهة التي يتعين علينا ان نسلكها. الكل مع المشروع الاصلاحي رسمياً وشعبياً، لكن البون شاسع بين الجميع في كل شيء وليست هناك حدود دنيا للاتفاق على أي قضية مهما صغرت. هناك قطيعة واستقطابات وجمعيات لم يلتقي ممثلوها ببعضهم منذ ان تأسست جمعياتهم.
المشكلة ان هناك غياباً لاتفاق واضح وقوي حول ثوابت الحياة في مجتمع ديمقراطي لان هناك ميلاً عبّرت عنه التيارات السياسية والاجتماعية بوضوح في فرض مفاهيمها الخاصة للديمقراطية والتعددية بشكل يصطدم مع أسس المشروع الاصلاحي نفسه ويميل للاجتزاء. هذا امر خطير للغاية لان المهم هو ترسيخ الثوابت التي لا ينبغي أن يحيد عنها لا الحكم ولا الشعب بكل تياراته السياسية والاجتماعية. هذه الثوابت هي المشاركة الشعبية في صنع القرار، احترام وصيانة الحريات العامة بما فيها الحريات الفردية شاملة حرية المعتقد والفكر والرأي، الجوهر السلمي للحياة السياسية والاحتكام لصناديق الاقتراع. لا ينفع ان نقدم تفسيراً مجتزأ لهذا العنصر من الثوابت على حساب الاخر، ولا ينفع ان نتعامل باحد هذه الثوابت دون الآخر. فالايمان بالحريات يجب ان يكون شاملا غير مجتزأ، لا ينفع ان ننتصر لحرية التنظيم السياسي دون الحريات الفردية وحرية الفكر والمعتقد. لا ينفع ان نطالب بحق الناس في العمل والعيش الكريم ونتعسف في التضييق على حرياتهم الشخصية. والاقرار بحرية التعبير يقتضي ان نكون اكثر تسامحاً واقل توتراً حيال الرأي الاخر لا ان ننزع الى تقييد هذا الحق بالميل الى التعميم بجريرة قلة أو استثناءات. كل خروج وكل حال إخلال بالقانون تعالج في حدود القانون نفسه بعيداً عن التعميم لأن المسئولية القانونية او الجنائية فردية بالدرجة الاولى.
لدينا ميراث كبير من المشكلات ونحن لسنا استثناء عن أي بلد آخر وليس عيبا ان ان نعلن ان لدينا مشكلات، لكن الاهم وطالما اننا متفقون على حل هذه المشكلات على اسس المشاركة الشعبية والادوات الدستورية فليس هناك من مبرر لكل هذا التوتر الكامن. واول من يتعين عليه ان يعي هذه الحقيقة هي الحكومة نفسها. فاذا كان الخلاف حول الدستور قد يعيق تعاطيها مع المعارضة، فلا شيء يبرر اسلوب تعاطيها مع البرلمان المنتخب من الناس. وحقيقة ان البرلمان لم يقر قانوناً واحداً طيلة عامين أمرٌ يصعب تبريره الى الحد الذي يدفع بعض المشاركين الآن في البرلمان للتلويح بعدم خوض الانتخابات القادمة.
الجميع متفق على السير بالمشروع الاصلاحي قدماً، وثمة ادراك بالحاجة لمزيد من الاصلاحات، وليس علينا سوى ان ننزع كل عوامل التأزيم التي قد تسهم في خلق توترات من حين لآخر. يزيد في الحاح هذه المهمة اننا نعيش مرحلة انتقالية، وهذا يستلزم قبل كل شيء الاتفاق الواضح والصريح على ثوابت العمل السياسي الاساسية: المشاركة الشعبية، احترام الحريات العامة والفردية، الاحتكام لصناديق الاقتراع والطابع السلمي للحياة السياسية.
غياب هذا الاتفاق يسهم في الانزلاق أحياناً وبسرعة الى حالات الصدام والتوتر ووجوده ينزع كل مبررات الانزلاق في المستقبل ويرفع عنه الغطاء تماماً
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ