هذا ما كنا نخشاه ولانزال، وما كنا نحذّر منه على الدوام: استغلال أي حادث طارئ للتضييق على الحريات وتقليص هامش حرية التعبير، وهي الثمرة الوحيدة الكبيرة التي لا يختلف عليها اثنان في المشروع الاصلاحي. نحن لسنا من المتشائمين ممن ينكرون حدوث أي تطور على وضع البلد السياسي، فما نعيشه وإن لم يكن في حجم الطموح الكبير الذي كان يراود الناس، إلاّ انه لا يمكن تجاهله.
ولأن مسألة الحرية هي هاجسنا الأكبر، فإننا سنظل نطالب وبإلحاح جنوني بعدم المسّ بهامش الحرية الموجود، تذرّعاً بما حصل في الفترة الأخيرة. وليقل من يقول إننا مهووسون بشيء اسمه «الحرية»، وذلك شرفٌ كبيرٌ لا ندعيه، وتهمة جميلة لا ننكرها. فقد دفعنا الكثير من أجل تحقيق هذا الهامش، ولسنا مستعدين للتخلي عنه أو التفريط فيه، وخصوصاً أن الحرية ليست منحة أو عطية أو مكرمة، وهي ليست فاكهة تخضع للمساومة في سوق الخضار، وإنما هي ناموس الحياة وشرع الله في عباده. وإذا أردنا لهذا البلد أن يكون متحضراً بين الأمم، فعليه أن يحسم أمره إلى الأبد، فالقضية أن نعيش أحراراً أم عبيداً، وليست هناك منطقة وسطى باللون الرمادي فيما يخص كرامة الانسان ليساومنا عليها المساومون ويتحذلق المتحذلقون.
طبعاً مثل هذه الحساسية الشديدة لن تجدوها عند من لم يدفع قرشاً واحداً ضريبة للحرية. فلسان حال هؤلاء يقول: فلتتقلص مساحة الحرية، ولتتراجع حرية التعبير، بل ولتعد قيود «أمن الدولة»، ماذا يهم؟ وطبعاً لا يهم كل ذلك عند من لم يدفعوا ضريبة، ولم يقدموا تضحية. بالأمس كان هذا «الجيش» يلعن الديمقراطية لأنها «لا تناسب مجتمعنا وحضارتنا وديننا وتقاليدنا»! فلما دخل عصر الاصلاح أصبحوا متطوعين في بلاط «الإصلاح»، واليوم يحملون لواء الدعوة المتطرفة للتضييق على الناس وسلب مكتسباتهم، حتى وإن تم باسم القانون وتحت قبة البرلمان، استغلالاً لظرفٍ أمني طارئ .
لكي لا تفسد الأرض!
وإذا أردنا الحق، فلابد من قراءة الساحة قراءة متوازنة، لوضع الأمور في نصابها الطبيعي، ومنذ البداية، لكيلا يكون التناول على طريقة: «لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى»! ففي ندوة الفقر، أدلى أحد الحضور بوجهة نظرٍ، يعارضها أناس ويوافقه عليها آخرون، فبدأ «تحشيد» المكنة الاعلامية، تطحن الحديد وتنثر الشرار، وبدأ «التصعيد» بإغلاق نادي العروبة، وحلّ مركز البحرين لحقوق الإنسان، وأدين الرجل بالتهور والجنون قبل الاستماع إلى أقوال «المتهم»، حتى كتب أحد رؤساء التحرير مدافعاً عن سبابه بأنه يصب في مصلحة «المتهم»! وهكذا كان الخطأ الأول: تهويلٌ وتضخيمٌ للمسألة، ومعاقبة مركز حقوقي بالإغلاق، وتأديب نادٍ ثقافي عريق بسبب تصريح فردي، ضرباً بعرض الحائط بإحدى البديهيات الحقوقية: «الجريمة فردية»، ولو جرى العالم على هذا المنوال من المعالجة لخلافاته لفسدت السماوات والأرض!
الخطأ الثاني تولد (شعبياً) من أحشاء الخطأ الأول (الرسمي)، إذ لم يتحمل «أنصار الخواجة» ما حصل، فشكّلوا لجنةً لمناصرته، وأخذت تتحرك باتجاه تحقيق هدف محدد (إطلاقه)، لكنها لم تحسن قراءة الواقع، ونست أن حركتها تصطدم بشيء اسمه «هيبة الدولة». وهكذا وجدت نفسها في طريقٍ ينتهي آخره بالاصطدام بالحائط. هذا هو موجز لما حدث أرجو أن أكون أميناً في تصويره.
ما يهمنا لم يكن اعتقال الخواجة، فالرجل صرّح تصريحاً لم يتراجع عنه، واتخذ موقفاً لم يعتذر عنه، ولم يكن بحاجة إلى من «يتشاطر» بالدفاع عنه بشتمه واتهامه بالجنون. لكن الأهم هنا المطالبة بالعدل والانصاف، وتقديمه إلى محاكمة عادلة نزيهة في حال ثبت خروجه على القانون، فضلاً عن إطلاق سراحه خلال هذه الفترة وعدم فرض قانون جديد خارج من تحت عباءة «أمن الدولة»، بتعذيب المتهم في السجن لمدة 45 يوماً، قبل ثبوت التهمة أو صدور الإدانة، فحرامٌ انتزاع حرية مواطن حتى لمدة يومين من دون وجه حق أو سند قانوني معتبر. من هنا نقولها وبأعلى صوت: «السجن السياسي جريمةٌ في حق الوطن»، كفى الوطن ذلك النزيف الدامي طوال ثلاثين عاماً، دماً ودموعاً وآلاماً وتهجيراً حتى حطّ اللاجئ السياسي البحريني رحاله في استراليا والدول الاسكندنافية، فحذارِ من العودة إلى انتهاكات حقوق الانسان وسحق كرامته، فذلك هو الدرس الذي لم تنفع في استيعابه تجربة 30 عاماً كانت أمرّ من العلقم.
نعم، نحن مهووسون بالحرية إلى حد الجنون، أما من يقربون الصلاة وهم سكاري، وكانوا يعيشون في بحبوحةٍ أيام «أمن الدولة» ويعيشون الآن في بحبوحة على «ظهر الإصلاح»، فليس لكرامة الإنسان وزن في قواميسهم، ولن تهمهم مثل هذه القيم والمبادئ. من هنا يتأستذ قلمهم على الناس اليوم، ولكنهم مستعدون لخلع ملابسهم الداخلية مرة أخرى، لو شرعت السجون أبوابها لتبدأ دورة جديدة في طحن عظام أبناء الوطن
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ