العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ

«أبطال بلا تاريخ»... علاقة زرقاء بحرب طروادة

الوسط - محمد المخلوق 

تحديث: 12 مايو 2017

وقعت عيناي على هذا الكتاب، وشجعني على اقتنائه ما رصدته لدى الربيعي من محاولة جادة لإثارة الأسئلة والقضايا، لا بغرض الوصول لاستنتاجات نهائية وقناعات محددة، بل لأجل المساعدة في الوصول إلى «منهجية جديدة وثورية» في قراءة التاريخ العربي تكون مناراً للباحثين العطاشى إلى ما يروي الظمأ.

«أبطال بلا تاريخ» عنوان مكثف لموضوع الكتاب، بل لقضايا كثيرة طرحها الربيعي في عدة كتب سابقة، وها هو يؤكد عليها هذه المرة: «ليس ثمّة تاريخ بلا أبطال، ولكن هناك، بكل تأكيد، أبطال بلا تاريخ، وهؤلاء غالباً ما تتشكل صورهم المؤثرة، بطولاتهم التراجيدية، أخلاقياتهم ومناقبهم داخل الخطاب الأسطوري، أي عملياً خارج التاريخ». من هنا ينطلق ليبحث في هذا الكتاب التماثلات بين الميثولوجيا اليونانية والأساطير العربية، ويؤكد أنه خرج باستنتاجات بناء على فرضيات، داعياً إلى عدم التعسّف بالقراءة السريعة. وباعتماد منهجية الفصل بين الأسطوري والتاريخي داخل النصّ التاريخي أو الديني، ثم معالجة كل منهما معالجة منفصلة إذا تطلّب الأمر يسبر أغوار الأساطير.

حقيقة أكّدها مراراً هي أن الأسطورة تتضمن التاريخ، ولكنها لا تقوله إلا بلغة متلعثمة وبأبجدية منسيّة يصعب اليوم تعلّمها، وأنه خاضع رغماً عنه لتصنيف خاطئ وشائع باعتبار الأسطوري زيفاً والتاريخ حقاً. اعتمد الربيعي منهجية التفكيك للاخباريات القديمة و«أساطير الأولين» لفهم أعمق للمسألة، وحشد الأسئلة المفضية إلى حقيقة دعّمها بالحجج والدلائل الأثرية تارة وبالتحليل المقارن مع أساطير أخرى، جاعلاً مما خلّفه وهب بن منبه (التيجان في ملوك حمير وصنعاء) وعبيد بن شُرْية الجُرهمي (أخبار اليمن) والطبري (الملوك والرسل) والفاكهي (أخبار مكة قديم الدهر وحديثه) والأزرقي (أخبار مكة) وابن الأثير (الكامل) والمسعودي (مروج الذهب) مادة لبحثه.

فضاء الأسئلة الواسع والمقاربات بين الأساطير عماد الخطوة الأولى في سبيل نتائج جريئة. فما علاقة أسطورة زواج النضيرة وحصار دويلة الحضر بثلاث أساطير يونانية مماثلة؟ وهل أن سنمّار وبناء الخورنق واعتزال النعمان الموّحد أسطورياً والمتعدد تاريخياً مرتبطة بأصل يوناني قديم (أسطورة تروفيونيوس) تردَّد أثناء الحروب الفارسية اليونانية؟ وهل بعد عدم القبول التاريخي بكون الزبّاء هي زنوبيا، يحتمل أن تكون خدعة إبل جذيمة الأبرش انعكاس لخدعة حصان طروادة؟ وإلام ترمز زرقاء اليمامة والإثمد الذي كانت تستعمله، وهل تنبوءاتها صورة مستنسخة لتنبوءات الكاهنة كاسندر التي حذرت الطرواديين فلم يسمعوا لها؟ وما سرّ التماهي بين الانتصارات المحلية اليمنية والانتصارات اليونانية الخارجية حتى ليغدو البطل (الملك) عجائبياً وكأنه ذو القرنين، الذي استعير اسمه لقباً لملوك محليين في اليمن والحيرة؟ تلك الأسئلة وغيرها شكّلت مادة مثيرة تستدعي القراءة المُتأملة، والمُشككة معاً، والسائلة حقاً عن سرّ هذا التشابه الكبير وأيّما أسبق؟ يصل الربيعي رويداً فرويداً إلى أن وقوع العرب تحت سيطرة ثقافية من الدول المجاورة (الفرس واليونان وصراعهما آنذاك) وما فرضه ذلك من تنازع وصراع ثقافي قد انعكس على تلك الأساطير، فجاءت عملية الانفعال ليرسّخها العقل الجمعي العربي بقوة الدمج والسرد وكأنها تخصّه. وثمّة أمران يؤكدهما: وجود أصول عربية بدئية للأساطير الإغريقية مأخوذة من الفينيقيين سكان البحر (الخليج العربي) وبالمقابل نسخ عربية لأساطير ثقافات أخرى، إلى حد بلوغ التداخل والمشابهة بينهما درجة مذهلة وملفتة.

ولكن مهما بدونا مجترّين لثقافات مجاورة، ومتأثرين بها ودائنين لمكوناتها الثقافية فإن الربيعي - كما قلت قبل قليل - يعطي منذ البداية ذلك الضوء الخافت الذي يجعلنا لا نشعر بالخجل تماماً والاستلاب، إذ إن عملية «أغرقةٍ» قد جرت على الأساطير الكنعانية الأصل، وجرى امتصاصها في نسيج ثقافي جديد، وها هي الأساطير التي هاجرت وتغرّبت طويلاً تعود إلى مواطنها التاريخية لتروى كأساطير غربية و«أجنبية» مثيرة وساحرة، ونجد نحن بقليل من التمحيصِ «الرُّبيعيِّ» مدى التشابه والتطابق أحياناً





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً