العدد 788 - الإثنين 01 نوفمبر 2004م الموافق 18 رمضان 1425هـ

حنا مينا: أنا أديب البحر وفاتح ممالكه

في لقطات من السيرة الإبداعية

في شهادة شخصية، يقول الكاتب السوري ياسين رفاعية، انه سأل الكاتب المصري نجيب محفوظ في القاهرة وبحضور عدد من كبار الكتاب مازحاً: من الكاتب العربي الذي يستحق جائزة نوبل بعدك؟ فأجابه محفوظ بتواضعه الجم: حنا مينا.

وأضاف: أن محفوظ سكت لحظة ثم أضاف: ليس بعدي ولكن قبلي أيضا. وتعيد شهادة محفوظ هذه استذكار تجربة حنا مينا الروائية والممتدة لعقود طويلة في الحياة الأدبية السورية والعربية والتي قدم خلالها حنا مينا خلقا أدبيا وإبداعيا مميزا ليس في نوعيته فقط بل في محتواه ومضمونه أيضا وهي أمور ترافقت بحياة غالبا ما كانت تتوالى فصولها بعيدا عن الأضواء وضجيج الحياة الصاخبة، وربما بين عوامل قوته في التغلب على ظروف حياته وشروط إبداعه الموضوعية والذاتية، وهي التي جعلت منه صاحب ثروة من الإبداع تجاوزت الثلاثين رواية وعدة كتب أخرى.

ظروف الحياة الأولى

يقدم حنا مينا لظروف حياته بالقول «والدي سليم مينا، وُلدتُ في اللاذقية، وسجلت ولادتي خطا في السويدية، وبدأت كما أحب أن انتهي وبطريقة من الدراماتيكية، لأنني ولدت بعد ثلاث بنات. وكانت المرأة التي لا تنجب صبيا في ذلك الزمن المحاط بالفقر والجهل والخرافة امرأة تسبب الشؤم، ولك بعد هذا أن تتصور فرحة أمي بولادتي وخشيتها التي استمرت عمرها كله على صحتي العليلة. إنني إذ أقول هذا اكرر نفسي، فقد قلت ما يشبه ذلك في رواياتي، وإذ ما أصررت على متابعة تقديم سيرة حياتي بقالب روائي كما فعلت حتى الآن، لن يجد القراء في كلامي هذا جديدا لولا أنني في رواياتي قلت نصف الحقيقة، وركزت على الجانب الفاضح من حياة عائلتي، الجانب الذي يخفيه الكاتب عادة وقمت أنا بتعرية كاملة له، حتى تجاوزت فيه المألوف، ولولا ذلك لتحول العمل الروائي خليطا ميلودراميا لكره الظروف الشقية التي صادفتني صبيا يافعا ومراهقا ورجلا وكهلا، وتغلبت عليها كلها، وحولتها من سلب إلى ايجاب باستخدام مادة روائية، أنا الذي عاشها من دون أن يفكر يوما انه سيكتب عنها».

تحديات الحياة

يضيف حنا مينا متناولاً الصعوبات التي أحاطت بحياته «لقد انتصرت على صحتي العليلة بالأفكار السليمة التي تشربتها، وقوامها تكريس الموقف والمسلك، والكلمة لمناصرة العدالة الاجتماعية، دخلت السجن تسع مرات، واضطرتني ظروف قاهرة إلى الخضوع للغربة وللمنفى عشرة أعوام، والانخراط في أعمال مرهقة مبددة للطاقة الجسدية والفكرية زاولتها في حياتي وسيأتي اليوم الذي يكون فيه لي ما كان «لناسك الشخروب» ميخائيل نعيمة ستكون نسخة للرفاه للدراسة، للفخر، للألوان الزاهية، إذا ما قيست بأشيائي وألواني في المذكرات ينبض فيها الحرمان والسباحة ضد التيار، والتعليم في متاهات الريف وشوارع المدن الخلفية بأكثر مما تعلمت على أيدي «سادة الثقافة» الذين احترم ذواتهم لا شهاداتهم، وليس هذا حسداً ولكنه نوع من الإشفاق على الذين يديرون مؤخرتهم للإنسانية المعذبة من حولهم بدءاً من النضال ضد الاحتلال فالعدوان فالظلم. بينما في مخازن الأنظمة العربية يتكدس الرصاص الذي يستخدم للتبذير لا التحرير وهذا مؤسف جدا».

ملامح الروح

ويوضح مينا بعضا من ملامح روحه قائلا «لقد جعلت أعوام المنفى تزهر على أصابعي وردا بدل العبرات، وهكذا عشت الصراع خبزا يوميا، ولا أزال وأنني أعامل الحياة كامرأة، فإذا أدارت لي ظهرها ادعها تذهب بسلام، مع رشة عطر، إن استطعت وراءها، وحين تعاكسني الحياة أستثيرها إلى المزيد، شأن المصارع الإسباني مع الثور الهائج، والمفارقة أن المرأة تعود إليّ دائما، والحياة تحاول مصالحتي دائماً، لكني ملول، غير قابل للاستيعاب، في قلب امرأة واحدة أو في كنف حياة مستقيمة وعميقة. أحب ما في البحر إليّ هو العاصفة، وأحب ما في الحياة إليّ هو التمرد، وهكذا أكره نفسي لأن المرأة وكذلك الحياة لم تروضاها، وكان بعض الترويض ضروريا لها كي أعرف كيف أكتب عن غراميات نساء الصالونات المتخذلقات، عوضا عن شكيبة وكاترين الحلوة وامرأة القبو، من الخارجات عن القوانين والأعراف لأن لهن سلوكا يعلو على الفضيلة الكاذبة البائسة والمموجة. الحب الأول كان فاشلا، ترك لامبالاة بليدة، هي طبعي حيال صدود النساء والرجال على السواء، لكن هنا أؤثر أن أكون محددا فالمعروف عني أني أعلي «صداقة الرجال» لا بمعنى الذكورة، بل الشمائل والقيم، وهذه الصفات تنطبق على النساء أيضا، أما عن حبي الأول فقد أحببت، وأنا أعمل حلاقا في اللاذقية، فتاة برجوازية، أو تنتسب لعائلة برجوازية، فلقيت منها تشوفا بلغ حد الزجر عندئذ تركتها وذات يوم بعد خمسة وأربعين عاما هتفت لي احدى الصديقات في اللاذقية أيضا تدعوني الى سهرة عندها ستكون تلك الحبيبة القديمة التي تزوجت وترملت موجودة فيها لأنها تريد أن تراني، وقد وافقت على الدعوة لكنني في اللحظة الأخيرة عدلت عن تلبيتها مع أنني متشوق إلى رؤية تلك المرأة التي كانت حبي الأول. لأنني لا أريد أن أفجع مرتين... الأولى عندما أحببتها صبية فتابت علي، والثانية عندما أراها وقد ذهب صباها، فآثرت الاحتفاظ بالصورة القديمة وهي أنانية صارخة مني».

حياة بين المدن والبحر

واقترنت حياة مينا بترابط عجيب بين المدن والبحر، وفي هذا يقول «أحب المدن الي «بودابست»، «باريس»، «مكسيكو»، أما عشقي وهواي كله في اللاذقية لأنها أعطتني البحر... يا إلهي، لماذا لا يوجد بحر في دمشق هذه الغانية الياسمينية التي عشتها أربعين عاما، ولم اكتب عنها أربعين كلمة لأنه لا زرقة فيها، بل خضرة وأنا متيم بكل ما هو ازرق في الماء والعين وحجارة «بابلو نيرودا»، والمجتمع الشامي كيتيم، لكنني ازعم أنني اخترقته، لكن تتعذر عليّ الكتابة عنه، عليّ أن أقول ما يجب أن يقال، عندئذ أندم ندامة الكسعي... ما رأيك بهذا المثل الحميري؟ أنا مصلوب دهري على أبواب دمشق السبعة أو العشرة، لكن احدا من المارة لم يبلل شفتي حتى باسفنجة خل... هل لديك دواء لدائي؟ صلِّ لأجلي إذن. البحر بيئتي التي عشتها، أنا أعرفه كما أعرف أسناني وتهزني موجاته، كما تهزني دمعة طفل يتيم، وأعشقه اكثر مما أعشق أي امرأة في هذا الوجود. وهو الذي ناداني وانتدبني، وأعطاني أوراقا ممهورة بالزبد، كي أكون سفيره إلى اليابسة، وقد كنت - سبب آخر - أنني من كشفة المناطق المجهولة في ما كتب، البحر كان مجهولا مغيبا في الأدب العربي الحديث، الا من حكايات قديمة لبعض البحارة العرب وما جاء في ألف ليلة وليلة عن السندباد ورحلاته وفي بعض الأحيان قصائد شعراء العصر العباسي الذين شبهوا «الحراقة» السفينة بالناقة، وإلا من بعض القصص القصيرة الحديثة عن الصيادين. اذا كان البحر قبلي منطقة عذراء، كبعض غابات إفريقيا والبرازيل، وبعدي صار معروفا ومحبوبا، لأني تناولته شاطئا ولجة، وعشت حكايته على رمل الشاطئ وفي أعالي المحيطات ومع ذلك لم أفعل سوى لفت نظر الأدباء إليه، فالرائد حسبه أن يدل على الجزيرة، أو القارة المكتشفة، ومن يخلفه يكتب وبعمق، عنها لأن هناك من فتح الطريق أمامه: «الشراع والعاصفة» ملحمة البحر، هذا ما قاله النقاد، و«نهاية رجل شجاع» أطلق عليها عبدالرحمن ياغي «رواية الروايات» وهذا حسبي، لقد جرى ماء البحر مجرى الدم في عروقي، فأنا بحار ومن عائلة بحرية، ولي مغامراتي في السفر، وفي السباحة خلال العواصف، وثلاثية «حكاية بحار - الدقل - المرفأ البعيد» مسح شامل لحياة البحر والبحارة، ولمرافئه ونسائه وكل من يعمل على متنه، وكذلك هي رواية «الياطر»، وكلما قلت إنني انتهيت مع البحر، عدت إليه لأنه الصوت الماشي على الماء، وأنا ألبيه، أنا أديب البحر وفاتح ممالكه وجائس قيعانه، وابن لجته البعيدة والمخيفة وفي هذا المجال نهضت بالأدب العربي الى مستوى الأدب العالمي من«موبي ديك» إلى «العجوز والبحر» وكل ما كتب عن البحر في الأدبين الإنجليزي والفرنسي، وبعدهما الأدب الأميركي»





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً