تحكي الأدبيات السياسية المتعلقة بالانتخابات الأميركية قصة الصراع الذي دار بين الرئيس الحالي للولايات المتحدة الأميركية جورج بوش ومرشح الحزب الديمقراطي للرئاسة جون كيري داخل النادي الطلابي السري التابع لجامعة «ييل» الأميركية المسمى «جمجمة وعظام» (جمعية سرية للنخبة ذات أذرع) على المنصب الأول لذلك النادي لكونهما «ترعرعا» ونشأ كل منهما في ثراء ورغد من العيش في شمال شرق الولايات المتحدة، ولهما من الأصدقاء الكثير. منصب رئاسة «جمجمة وعظام» الذي فاز به جورج بوش الأب والابن لمرات عدة نتيجة التحالفات التي استطاعوا عبر مراوغات عدة الحصول عليها كان محور الصراع بين الرجلين المتنافسين الآن، كما كان للتاريخ الذي لعائلة بوش بالجمعية دور كبير إذ إن بوش الذي كان أبوه وجده أيضا عضوين في «جمجمة وعظام».
وتحكي تلك الأدبيات أيضاً عن القَسم الذي أقسم به كيري على الانتقام من جورج بوش الابن في صراعات الحياة السياسية والعملية التي قد يلتقيان فيها مجدداً مستقبلاً خارج أروقة قبو النادي السري، الذي تربط أنشطته بـ «نظرية المؤامرة»، إذ ربطوا بين «جمجمة وعظام» وبين كل شيء بدءًا من اغتيال الرئيس السابق جون كنيدي وحتى فضيحة ووترغيت. غير أن مقولات تخالف تلك الأراء تقول إن الجمعية هي شبكة للخريجين عقدت عزمها على حيازة السلطة والاحتفاظ بها، والجمعية لا تعدو عن كونها مؤسسة تطمح إلى وضع أعضائها في مناصب القوة، وإنها «جمعية للعلاقات». وتعرف بتفريخ النخب في الولايات المتحدة، وخصوصاً ما يتعلق بالتعهد بالتزام السرية وكيف يؤثر ولاؤهما لجمجمة وعظام على خدمة البلاد» (الجزيرة).
كثيرون هم الذين تابعوا المرشحين وهما يتنافسان تنافساً اصطلح على تسميته «شريفاً» حيث لا تظهر الأدوات الأخرى المتعارف عليها بـ «غير شريفة» علناً أمام أبصار الناس. وقد حدث أن أطاحت تلك الممارسات «غير الشريفة» برئيس سابق وأخرجته من البيت الأبيض ملوحاً بيده من على سلم الطائرة التي أقلته إلى حيث يريد «إني لست مذنباً»، وكادت أن تعصف بنتائج الانتخابات الرئاسية للدورة السابقة إذ كانت ولاية فلوريدا نجمة الساحة والمعركة، وفيها سطع نجم البطاقات الكمبيوترية المخرمة وعدسات التكبير، وخبا نجم «آل غور» وفاز بالمنصب بوش الابن ونائبه.
ويبدو أن ولاية فلوريدا تعلّمت الدرس، فهي لذلك استعدت للانتخابات هذه السنة حيث فحصت العدسات المكبرة فحصاً دقيقاً واستجلبت اقمشة خاصة لتنظيفها لإزالة أية شائبة قد تكون علقت بها من جراء انتقالها من مكان إلى مكان أو يد إلى يد! إلى جانب ذلك رصدت مبالغ طائلة لفحص البطاقات المخرمة حتى لا يكون هناك خرم علوي يوازي الخرم السفلي فيها! مع هذا فالكثير من المراقبين السياسيين والمحايدين يتوقعون أن يكون هذا العام عام الأخطاء الكبيرة في العملية الانتخابية.
أود هنا إلى أن أشير إلى أن لي رأياً خاصاً في الموضوع (الرئاسة)، فأنا من المؤمنين جداً بأن الرئيس القادم للولايات المتحدة هو دون منازع - وقد يختلف معي كثيرون - جون كيري، لكوني أعرف أن بوش الابن لم يتعلم الدرس الذي خاضه والده في معركته لولاية ثانية ضد بيل كلينتون، إذ أسقطه الاقتصاد المحلي الذي كان يئن تحت حوافر الاقتصاد العالمي، ولم تشفع له جميع انتصاراته الدولية على الاصعدة كافة... لكن على أي أساس أبني هذا الإيمان؟
بدءاً هناك عناصر عدة تشير إلى ذلك، بعضها مَرْئِيٌ وبعضها الآخر غير مرئي. وهذا الأمر لا يعدو عن كونه في نهاية الأمر توقعاً لنتيجة قد يصدق أو قد لا يصدق، فقط علينا أن ننتظر ونرى. أذكر بأني وبين جماعة من الأفراد يوم كانت معركة الانتخابات على أشدها بين بيريز ونتنياهو لرئاسة الوزارة في الدولة «المزروعة كما اللغم» «إسرائيل» قلت وخلافاً لكل التوقعات التي كانت تصبغ المكان بصبغتها أن نتنياهو سيفوز بالمركز، يومها علا الضحك والتعليقات من الجماعة تلك، وراهن بعضهم على أعز ما يملك بأن بيريز هو الفائز. صدق توقعي وفاز نتنياهو، ولم أنبس ببنة شفة للأخوة ولم أقل لقد كنتم مخطئين، ولم أطالب بما راهنوا عليه من أعز ما يملكون.
في حادثة أخرى توقعت مباشرة بعد فوز بوش الابن بـ «فلوريدا غيت»، وأنها ستخرجه من البيت الابيض من أوسع أبوابه غير أن توقعي لم يصدق، وتحملت عبء عدم صدق التوقع. أحد العناصر المهمة والتي يجب أن تؤخذ على محمل الجد هو أن الرئيس الروسي بوتن «قلق» جداً من الانفلات الأمني في العراق، وإنه في النهاية سيؤدي إلى قطع الطريق على تجديد ولاية زميله بوش (صحيفة الحياة). عنصر آخر يقول إن أربع سنوات قضاها بوش الابن في البيت الأبيض لاتعدو عن كونها «جملة أكاذيب»، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالعراق، وإنه «من أكثر الرؤساء الأميركان إثارة للجدل والانشقاقات داخل صفوف الاميركيين».
على ما يبدو أن الانتخابات الرئاسية الاميركية غريبة جداً على البعض في مجتمعاتنا فهم لا يفهمونها الفهم الصحيح ولذلك فهم لا يستطيعون التنبؤ بمن سيكون الرئيس المقبل. أميركا كلها بكل تأكيد غريبة عليهم. فهم على مدى السنين التي تعاملوا معها لا يعرفونها ولايعرفون ما تريد بالضبط. في السنوات الاولى التي كانت لي في أميركا أخذني صديقي السفير العربي هناك في جولة في سيارته الدبلوماسية وأخذ يشير إلي بأهم المواقع فيها: البيت الأبيض، الكونغرس، المكتبة، المتاحف، جورج تاون، براهام لنكولن، بناية واترغيت، مركز كيندي إلى أن وصلنا إلى عمارة تتجه بكلها ناحية الشمس والنهر، فقال صاحبي السفير: «هنا جميع زعماء العالم».
نظرت إليه باستغراب وسألت: جميع زعماء العالم؟ قال: «نعم جميع زعماء العالم» سألت: كيف؟ قال: «هنا يوجد شبيه لكل زعيم من زعماء العالم» وأضاف: «إنه إذا أراد الرئيس الأميركي أو أي مسئول مقابلة الرئيس الحقيقي فإنه يتدرب مع هذا الزعيم الشبيه على الكيفية التي يستقبله فيها، فالشبيه سيعلمه ما يحب هذا الزعيم من أشياء وما يحب أن يشرب ويأكل، وما يحب من موسيقى وما لديه من مواهب وهوايات ومعلومات عن عائلته وعلاقته بشعبه، وكم نسبة المواطنين من الشعب الذين يحبونه، ويريه جميع صور عائلته ورفاق دربه ومعلومات عن جميع مرافقيه».
وبينما نحن نأكل الشوارع أكلا ونقطعها قطعاً وإذا بمبنى كبير تحوطه السيارات من كل جهة وتصب عليه الشمس جام غضبها ثم قال: «هل تعرف هذا المبنى؟» وقبل أن أجيب بالنفي أو الإيجاب قال: «إنه البنتاغون» وأضاف: «من هنا تخرج بلاوي العالم». لا أود أن أطيل وأخرج عن صلب الموضع ولكن لابد أن أشير إلى أننا هنا في العالم العربي منذ بدأ علاقتنا بالغرب وأميركا ليس لدينا في أي موقع عربي رسمي أو أهلي معلومات عن الرؤساء الذين مضوا أو الرؤساء المحتمل وصولهم إلى البيت الأبيض والأدهى من كل هذا وذاك ليس لدينا معلومات عن دهاتهم ومهندسي سياساتهم، فنحن حتى الآن لا نعرف عن «بوال» إلا اليسير عن أصله وفصله و كندليزا رايس سوى عن فصلها و أصلها وعن أكبر داهية عرفته السياسة الأميركية «كيسنجر» سوى أصله «اليهودي»! السؤال ماذا نتوقع أن نحقق في علاقتنا مع أميركا وغير أميركا إذا ما نحن لم نعرف من هم صدقاء كانوا أم أعداء وقديما قالوا «اعرف نفسك» و«اعرف عدوك».
الرئيس القادم الذي اتوقع قدومه والذي ينوي الانتقام ليس من «جورج بوش الابن» وحده وأعضاء «جمجمة وعظام» الذين خذلوه فيما سبق، بل ربما من العالم كله ظهر في وسائل الإعلام تماماً كما كان يظهر صدام حسين فيما سبق ببنادق تغطي جسده تارة في اليد وتارة على الكتف وتارة موجهة نحو السماء وتارة مصوبة نحو الماء وتارة تلاحق طيراً يسبح في فضاء الله بحرية؛ يظهر تارة بقبعة وتارة حاسر الرأس؛ وكثيراً ما ظهر في حفلات أعياد الميلاد، الحسنة الوحيد التي نسجلها له هو أنه لم يستخدم السيجار حتى الآن ويارب استر؛ في هذا الشأن تعالوا نقرأ ما جاء في صحيفة «الحياة» للكاتب «عادل مالك» في الرابع و العشرين من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2004 ص 9 يقول فيه : «ومن دون الدفاع عن سياسات بوش وإرتكاباته الخاطئة في الشرق الأوسط فإن من اطلع بدقة على البرنامج الانتخابي لجون كيري لوجده أكثر قُبحاً وسَفالة سياسية ضد العرب بوجهه الإجمالي. وإذا بلغ الرئيس بوش حدّ تأييد أصوات اليهود وغض الطرف عن ممارسات ارييل شارون (شريكه في المعاناة من الإرهاب!) فقد بلغ من انطباع كيري أن تعلم اللغة العبرية وخاطب اليهود بلغتهم لإحساسهم بدفْ التعاطف والتملق والدفاع عن مصالح «إسرائيل». كما إنه حرص على إرسال شقيقة إلى «إسرائيل». وهو الذي ترك الكثلكة واعتنق اليهودية في محاولة لكسب أصوات المزيد من اليهود إلى محلته». ثم يتساءل هذا الكاتب: «إذن أين هو الكسب بالنسبة للعرب وقضاياهم؟» إلى جانب ذلك فجميع المؤشرات تشير إلى أن «مواقفه رمادية» بالنسبة إلى القضايا العالمية.
مهما تكن نتائج الانتخابات الاميركية وإن كنت أفضل على جميع المرشحين «أندي روني» الذي لا يهتم بأعياد ميلاد الرؤساء ويرى أن يكون هناك مناظرات بين السيدات الأول للرئاسة، صدقت مقولتي في الرئيس القادم أو لم تصدق فإني أقول للقادم إلى البيت الأبيض: «لك إيمانك الخاص ولنا إنسانيتنا المشتركة راجياً عدم المغامرة بها مهما كانت المغريات»
العدد 787 - الأحد 31 أكتوبر 2004م الموافق 17 رمضان 1425هـ