كانت الكلمات التي صدرت مدروسة جيدا تلك التي اختارتها مستشارة البيت الأبيض للأمن القومي كوندليزا رايس في نيسان/أبريل العام 2002 لتعلنها أمام جمهور في قاعة للمحاضرات في جامعة جون هوبكنز بمدينة واشنطن: «لقد حصلت هزة أرضية بفعل حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 من شأنها أن تغير العالم». ثم أضافت: بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ النظام العالمي يمر في حال تغير، والآن بات ممكنا أن يجري وضع نهاية لعملية التغيير. المرحلة المقبلة ستصحبها فرص كبيرة ومخاطر كبيرة. بالنسبة إلى كوندليزا رايس هي مرحلة تشبه على حد قولها المرحلة التي شهدها العالم في الفترة بين العام 1945 والعام 1947 حين قادت الولايات المتحدة التحالف المناهض لهتلر والذي حسم الحرب العالمية الثانية لصالحه ونشأت بذلك موازين دولية جديدة. لاشك أن هذه الكلمات التي رددتها كوندليزا رايس ورددتها لاحقا أمام جمهور أميركي، ستتحدث عنها كتب التاريخ، لأنها تشير إلى تغيير جذري في السياسة الخارجية الأميركية.
فالعالم سيحكم على عهد بوش، من زاوية السياسة الخارجية وليس من زاوية مجال آخر. بعد أن بدأ عهده بصورة مثيرة للملل والشكوى من أنه يقضي أوقاته في مزرعته أكثر مما يقضي وقته في البيت الأبيض، ساهمت السياسة الخارجية في تسليط الأضواء على بوش والولايات المتحدة تحت وطأة الهزة التي تحدثت عنها كوندليزا رايس.
أصبح العالم يعرف أن هناك مبادئ جديدة للولايات المتحدة لم يعهدها أحد من قبل. مبادئ لم يضعها جورج واشنطن ولم يقرها الدستور الأميركي، وقد يتحدث المؤرخون عن ظهور امبراطورية رومانية جديدة في الطرف البعيد للمحيط الأطلسي. وقد يختلف المؤرخون على تسمية بوش بقيصر جديد أو مبشر العصر، لكنهم لن يختلفوا على كون بوش وضع نهاية لشعور الدول المستقلة بالأمان حين أعلن بعد غزو العراق أن الولايات المتحدة مستعدة للتدخل في أي مكان في العالم إذا كان ذلك يخدم مصالحها الأمنية والاستراتيجية. لم يسبق أن أثار رئيس أميركي سابق مثل الجدل الدولي الذي مازال قائما مثلما فعل جورج دبليو بوش.
حين تسلم بوش منصبه باعتباره الرئيس رقم 43 في الولايات المتحدة، ساد شعور عام في الداخل والخارج، أن الحاكم السابق لولاية تكساس الذي تسبب بحصول الولاية على رقم قياسي كونها الولاية التي تم تنفيذ أحكام الإعدام فيها بصورة أكثر من سائر الولايات الأخرى، سيركز على السياسة الداخلية والاقتصاد. وعند انتخابه كان بوش مثار جدل نظرا إلى الطريقة التي تم انتخابه فيها بعد تعطل نظام الانتخاب وحصوله على مساعدة من قضاة المحكمة العليا الذين أعلنوا فوزه. وهناك فئة ليست قليلة من الأميركيين الذين يعتقدون أن انتخابات الرئاسة بتاريخ الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سيحصل فيها تلاعب، لكن المراقبين كانوا على حق حين حذروا بعد انتخاب بوش أنه سيكون ضحية التفكير الايديولوجي المتعصب للمستشارين الذين اختارهم من المعسكر السياسي الذي عمل تحت امرة الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان. كوندليزا رايس تعلمت السياسة خلال الحرب الباردة بين الشرق والغرب وبصورة خاصة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي ولها نظرة معادية بصورة يصعب تصديقها للشيوعيين. وزارة الدفاع أسند بوش قيادتها إلى دونالد رامسفيلد على رأس مستشارين ايديولوجيين أبرزهم بول ولفوفيتز الذي وضع خطة غزو العراق. ثم وزير الدفاع ديك تشيني خلال حرب الخليج العام 1990/1999 في منصب نائب الرئيس. هكذا أصبح بوش منذ بداية عهده لعبة بأيدي هذه الفئة من الصقور الذين بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وجدوا الفرصة متاحة كي تستغل الولايات المتحدة تفوقها العسكري لتحقيق أطماعها الاستراتيجية والعسكرية. بعد الإعلان عن تشكيلة الصقور وضح لكثير من المراقبين أن الولايات المتحدة ستعمل بسياسة خارجية شرسة، تثير القلق. العرب أول من أحسوا بسلبية بوش وخصوصاً الفلسطينيين بعد أن أقامت إدارة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون اتصالات وطيدة مع الجانب الفلسطيني وكان عرفات يزور البيت الأبيض، لم يوصد بوش أبواب البيت الأبيض بوجه عرفات وكبار المسئولين الفلسطينيين فحسب، بل استجاب لرغبة رئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون بعزل عرفات وقطع الصلات معه وظل بوش حتى اليوم يعمل بنصيحة شارون. إلى جانب تنصل بوش من السياسة التي وضعها كلينتون تجاه الشرق الأوسط توقفت أيضا المفاوضات بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وأغاظ الحلفاء في أوروبا حين رفض توقيع اتفاق المناخ الذي أقرته الأمم المتحدة بمدينة كيوتو اليابانية وينص على خفض الغاز المنبعث لحماية المناخ الدولي. من خلال كل هذه الأمور كان واضحا أن بوش مستعد للتنكر للاتفاقات الدولية كافة ومن ضمنها معاهدات خفض التسلح التقليدي والنووي. بعد أن قررت إدارة بوش بناء نظام رادع للصواريخ النووية، أصبحت الصين، وليس روسيا، تشكل تهديدا نوويا على أمن الولايات المتحدة خلال القرن الواحد والعشرين.
ثم وقعت حوادث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وظهرت نتيجتها قوى سياسية أميركية لم تكن في حساب أحد، راحت تعمل في تغيير السياسة الخارجية الأميركية بصورة جذرية. كان رد فعل العالم على حوادث الهجوم على نيويورك وواشنطن التعبير عن تضامن غير محدود مع الولايات المتحدة. لم تكن هناك معارضة تذكر حين قامت القوة العظمى بحملتها العسكرية على أفغانستان وسعت إلى تدمير تنظيم «القاعدة». لكن ظهرت معارضة بارزة للسياسة الخارجية الأميركية حين جعل بوش شعار«محور الشر» الذي ابتدعه، من أبرز أهداف مواضيع السياسة الخارجية وراح يبرر رغبة بلاده في التصدي عسكريا لعدد من الدول، الأمر الذي ترك حلفاء واشنطن في أوروبا بالذات في حيرة من أمرهم.
كان العام 2002 متميزا بالنسبة إلى السياسة الخارجية الأميركية لأن الصقور في واشنطن وضعوا فيه مبدأ الحروب الوقائية وركزوا في البداية على العراق. ويعتقد المحللون أنهم في حال فوز بوش بولاية جديدة سيركزون على سورية وإيران. وكانت حرب العراق التي وقعت العام 2003 قد ساهمت في انهيار النظام العالمي وكانت ضربة موجعة للأمم المتحدة أيضا. قبل غزو العراق واجهت واشنطن هزيمة سياسية تلو الأخرى كان أبرزها فشل واشنطن بإقناع العالم بدوافع الحرب التي قامت على قاعدة من الأكاذيب والأدلة المحاكة من قبل فريق من الدجالين وأصحاب المصالح. في النهاية ظلت واشنطن تقول إن الإرهاب الإسلامي بحسب تعبيرها يعتبر أكبر تهديدا لأمن الولايات المتحدة وينبغي القضاء عليه بأسرع وقت ومن خلال طريق مضمون يتمثل بقيام عراق ديمقراطي جديد. وكانت ذريعة هذه الحرب أيضا أسلحة للدمار الشامل لم يتم العثور عليها على رغم وجود 148 ألف جندي أميركي في العراق. الهدف الحقيقي لغزو العراق كشفت عنه صحيفة «نيويورك تايمز» بعد أن بدأت ترد للولايات المتحدة صناديق خشبية فيها جثث جنود أميركيين فكتبت تقول: قمنا بغزو العراق لأنه كانت أمامنا فرصة: كان صدام معزولا ونظامه ضعيفاً سياسياً وعسكرياً كما كان المجتمع العراقي على استعداد لقبول التغيير. سرعان ما شعرت واشنطن بعدم صدق هذا التحليل وأصبحت الحرب تحتاج إلى سنوات طويلة حتى تنتهي بصورة حقيقية. جاءت الولايات المتحدة إلى العراق بحجة نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن سرعان ما واجهت هزيمة معنوية وأخلاقية حين تم الكشف عن ممارسات تعذيب سادية قام بها جنود أميركيون في سجن «أبو غريب». منذ ذلك الوقت زادت نشاطات المقاومة العراقية المناهضة للمحررين الذين تحولوا إلى قوة احتلال غير مرغوب بها. وأصبح العراق ساحة ليس للإسلاميين الذين كانوا غرباء على هذا البلد في عهد صدام حسين بل تختبر واشنطن فيها صلابة التحالف الذي أقامته حين شنت حملتها العسكرية على هذا البلد. لم تقنع واشنطن أهم حليفين لها بالحرب، فرنسا وألمانيا، بل تسود موجة كراهية واسعة تجاه بوش وأعضاء إدارته في أوروبا وفي سائر أنحاء العالم وهذا حصل بعد أقل من عامين على كسب الولايات المتحدة تعاطفاً غير محدود بعد هجمات سبتمبر
العدد 787 - الأحد 31 أكتوبر 2004م الموافق 17 رمضان 1425هـ