يعتبر البعض التحولات التي يشهدها العالم اليوم على الصعد الاقتصادية والاجتماعية أكثر عمقا وتأثيرا من تلك التي عرفتها أوروبا في أي من مراحل تطورها، بما فيها تلك التي أعقبت الثورة الصناعية، وخاصة عندما يؤخذ في الحسبان التغييرات التي قادتها ثورة الاتصالات والمعلومات منذ العقدين الأخيرين من القرن الماضي. وإذا كانت الشعارات التي سادت بداية القرن العشرين، وقبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى قد نادت بأن «الحل الاشتراكي» وزيادة «دور الدولة في الاقتصاد»، هما القادران على انتشال العالم من الأزمات المحدقة به، فإن «الخصخصة» و»تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي»، وتعزيز «حضور الرأس مال الخاص في الحياة العامة»، أصبحت أكثر الشعارات إغراء للقوى السياسية، بما فيها تلك العاملة في الاقتصادات المتقدمة، ولعل الاقتصاد البريطاني هو أكثر الأمثلة تأكيدا لذلك، حيث يؤرخ البعض لمفهوم «الخصخصة» بدعوات رئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر وبرامجها الاقتصادية التي أطلقتها في مطلع الثمانينيات، ولقت صدى عميقا لدى الإدارة الأميركية حينها بزعامة الرئيس رونالد ريغان، متجاوزين بذلك أول خطوات تحويل أملاك الدولة إلى القطاع الخاص التي تمت في العام 1969، في الولايات المتحدة الأميركية ذاتها.
ومع بلوغ التسعينيات من القرن الماضي شهدت «الخصخصة» عصر ازدهارها عندما تحولت العديد من الأسواق، والكثير من الشركات قدرت قيمتها بعشرات المليارات خلال أقصر من عقد من الزمان إلى نماذج مختلفة من أشكال الخصخصة. وقد اورد موقع «إسلام أون لاين» على الإنترنت نماذج حية لها. فوفقا لتقرير أصدرته منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في العام 2000، ونشر جزءا منه ذلك الموقع «زادت الحكومات في العالم أجمع من بيع أنصبتها في الشركات العامة إلى القطاع الخاص، وبلغت قيمة حصيلة الخصخصة ما يفوق 10 % ما تحقق قبل عشرة سنوات، أي ما يعادل 145 مليار دولار أميركي، وتمت أكبر عملية بيع في إيطاليا، وقيمتها 14 مليار دولار تمثل 34.5 % من حجم الأسهم في أكبر شركة عامة للكهرباء. وخلال السنوات 1996 - 1997 وصلت مبيعات المؤسسات العامة في أوروبا 53 مليار دولار أميركي، وفي أميركا اللاتينية 17 مليارًا، وفي آسيا 9 مليارات، ولعل هذا يعكس تناقص دور القطاع العام كمالك للأصول الإنتاجية في الاقتصاد».
ويستعين الموقع ببيانات أخرى صادرة عن البنك الدولي في العام 2000 أيضاً، تبين «أن الخصخصة صارت اتجاهًا معروفًا خلال العشر سنوات الماضية. فقد زاد عدد الدول التي طبقت برامج وعمليات الخصخصة من 12 دولة في العام 1988 إلى أكثر من 80 دولة العام 1995، وأن حوالي 88 دولة باعت أصولا قيمتها 135 مليار دولار في 3800 عملية، تقدر كل واحدة منها بأكثر من 50.000 دولار خلال الفترة من 1988 - 1995».
ويروج المدافعون عن الخصخصة لمنافعها التي تعم ـ حسب نظرتهم ـ القطاعين العام والخاص، ويلخصها أحد كتاب موقع «ضفاف الإبداع» بأنها على المستوى الاقتصادي العام للدولة بوسعها أن تمارس دورها الإيجابي في تطوير أداء القطاع الخاص من أجل «زيادة الإنتاج وتحديث نوعية المنتجات وتخفيض التكلفة ومن تم تخفيض أسعار البيع، وبالتالي زيادة الاستهلاك مما يؤدي إلى الزيادة في الإنتاج والتي يرافقها الزيادة في العمالة والدخل، وبصورة عامة ارتفاعا في معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي».
أما بالنسبة للقطاع الخاص، وعلى نحو مستقل فبإمكان الخصخصة، حسبما يرى موقع «ضفاف الفكر» أيضا، أن تمارس دورا إيجابيا في «تشجيع واستقطاب الادخارات الوطنية والسيولة الفائضة وتوظيفها في استثمارات منتجة».
ولا تستثني الخصخصة، كما يرى الموقع أيضا الدولة ذاتها من مروحة الفوائد التي تجنيها من وراء سياسات الخصخصة، إذ تحقق الدولة «إيرادات كبيرة من حصيلة بيع الأسهم العادية المصدرة، وبالتالي دعم موازنة الدولة وتقليص عجز الميزانية، مما يحد من لجوئها إلى البنك المركزي للاقتراض لتمويل العجز، والذي يعتبر تمويلا تضخميا».
وشأنها شأن أية سياسة أخرى تلجأ لها الدول من أجل تحسين أوضاعها الاقتصادية، أو الخروج من أزماتها المالية، تقف وراء «الخصخصة» مجموعة متكاملة من الأسباب، بعضها خارجي مثل قوانين العولمة، او متطلبات اتفاقيات مثل اتفاقية التجارة الحرة، لكن الأهم منها تلك الداخلية مثل ازدياد الدين العام على الدولة، جراء تنامي المصروفات وتآكل الدخل العام، أو نظرا لحاجة الدولة إلى الاستدانة من أجل تنفيذ مشروعات باهضة الكلفة ذات علاقة بالبنية التحتية، او حتى تلك التي تضمن حضور الدولة في الأسواق العالمية حيث المنافسة شديدة وشروط البقاء والاستمرار قاسية.
ويحدد موقع «العرفان» سببين أساسيين يقفان وراء عمليات الخصخصة: «الدافع الاول يعود إلى التضخم المستمر للقطاع العام وصعوبة مواكبة مصروفاته المتنامية. الدافع الثاني يرجع إلى بروز قناعة دولية (خاصة بعد فشل النظام الاشتراكي) بان ادارة الانشطة الاقتصادية تتطلب مهارات تجارية ومالية وادارية وفنية عالية توجه بين العملاء، وهي صفات يفتقر اليها القطاع العام».
في ضوء كل ذلك نرى ان القبول باللجوء إلى الخصخصة يقتضي من الجهة المنفذة مجموعة من المتطلبات، ويضعها أمام مجموعة اخرى من التحديات، جميعها مرتبطة، إلى حد بعيد بشكل الخصخصة الذي ستأخذ به تلك الجهة لتنفيذ عمليات الخصخصة أولا، وحصتها الاقتصادية، ونسبتها المالية من الإنتاج القومي ثانيا. إن القراءة الصحيحة لتلك المتطلبات، والتقدير الدقيق لتلك التحديات، هما وحدهما القادرين على تزويد من يتجه نحو الخصخصة بما يحتاجه من خطط وبرامج ومشروعات توصله إلى المعادلة الصحيحة لخصخصة ناجحة قابلة للنمو والاستمرار على حد سواء.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2808 - الجمعة 14 مايو 2010م الموافق 29 جمادى الأولى 1431هـ