يشير التاريخ المعاصر إلى أن الدول ذات الأنظمة الديمقراطية الموجهة نحو اقتصاد السوق تكون أفضل استعداداً للاستجابة لتحديات العولمة من غيرها. وهناك على وجه التحديد أربعة جوانب أساسية للديمقراطية ثبت أن لها تأثيرات حاسمة على التنمية الاقتصادية والاجتماعية على المدى الطويل:
- النظام الديمقراطي السليم هو أفضل ضمان للاستقرار السياسي الذي يعتبر بدوره عنصراً أساسياً للنمو الاقتصادي واستثمارات القطاع الخاص على المدى الطويل.
- قيم الديمقراطية مثل الشفافية والمساءلة تعتبر أساسية بالنسبة للحكومة الفعالة المستجيبة وإلى النشاط الاقتصادي الكفء والمزدهر. وللتدليل على ذلك، يجدر الاهتمام بدراسة الأزمات المالية التي تعرضت لها دول آسيا وروسيا في أواخر التسعينيات.
- ضرورة وجود قوانين ولوائح تنظيمية سليمة يعززها احترام القانون من أجل النمو القوي لأنشطة الأعمال في اقتصاد السوق.
- ضرورة أن تسمح إجراءات صنع القرار بالمشاركة والتغذية المرتدة من القطاع الخاص والمجتمع المدني، والعمال والأحزاب السياسي وغيرها من منظمات المجتمع. وفي غياب أنظمة التغذية المرتدة والمساءلة، تفقد عمليات التنظيم الحكومية والموازنة ومختلف الجوانب اليومية للحكم الصالح الاتصال بينها وبين الناس والمجموعات التي ما وجدت إلا لتخدمها. ومن أمثلة ذلك إتاحة فترات لإبداء الملاحظات والآراء، وعقد جلسات الاستماع، ونشر مسودات اللوائح المقترحة.
وبينما توجد قضايا وإصلاحات كثيرة تؤدي إلى نجاح الديمقراطية فإن الدول التي نجحت في التعامل مع هذه التحديات الرئيسية الأربعة نجحت كذلك في تحقيق آمال شعوبها وتطلعاتها وفي إيجاد الفرص الاقتصادية الأساسية للنمو البشري وتخفيف حدة الفقر. وعلى النقيض من ذلك، فإن الدول التي تخفق في إقامة حكم ديمقراطي صالح تتعثر خطى تقدمها وتعجز عن الاستفادة من الفرص الكثيرة التي توفرها العولمة.
توجد علاقة متبادلة بين الإصلاح الموجه لاقتصاد السوق والتنمية الديمقراطية، فكل منهما يدعم الآخر ما يمكن أن يؤدي في أحسن الظروف إلى دائرة حميدة من التنمية والاستقرار. لكن، إذا صحت هذه المقولة، لماذا لا نرى ذلك في أغلب الأحوال؟ ولماذا يهدد الضياع عقداً كاملاً من الإصلاحات في أميركا اللاتينية؟ أو لماذا لا تجد دول كثيرة إفريقية وشرق أوسطية طريقاً يوصلها إلى هذه الدائرة الحميدة بما يجعل المواطن حريصاً للوصول إلى تلك الدائرة وتأييد المزيد من إجراءات الإصلاح؟
وقد نجد إحدى الإجابات في مصادر التمويل الغربية التي لها رؤية في مجال الديمقراطية وإصلاح السوق، وما يقدمونه من نصائح إلى الأسواق الصاعدة وفي الدول النامية. وكبداية، هناك إجماع ثابت في الرأي على أن الديمقراطية تحتاج إلى وجود انتخابات حرة ونزيهة، وإلى مواطنين لديهم الحافز والمعرفة، وإلى هياكل حزبية سياسية جيدة البناء، وإلى وسائل إعلام ومنظمات مجتمع مدني شديدة الحساسية وإلى دعم من مجتمع الأعمال (وهذا الأخير يعد تطوراً حديثاً في مفهوم الديمقراطية الشاملة). ومع ذلك هناك مكوّن مفقود بالغ الحيوية وهو العملية اليومية لصنع القرار التي يتم من خلالها حكم البلاد.
وفيما عدا بعض الاستثناءات الملحوظة مثل هيرناندو دي سوتر، يفشل معظم المنظرين والممارسين في فتح الصندوق الأسود لعمليات الحكم الصالح لاستكشاف مدى افتقارها إلى قيم الديمقراطية مثل الشفافية والمشاركة والعدل والمساواة. وبالمثل، فإن المدافعين عن إصلاحات السوق يخفقون عادة في دمج الاعتبارات السياسية أو مشاركة المواطنين ضمن تصميم برامج الإصلاح. إن التركيز الثقيل على الخبراء الفنيين كمصممين للإصلاح يتعرض للفشل على عدة مستويات.
والأهم من ذلك أن برامج الإصلاح تتجاهل حقيقة أن الإصلاحات يجب أن تشكل ما أسماه داني روديك المعرفة المحلية، وأنه لابد من وجود طرق لضمان المشاركة الشعبية في تصميم الإصلاحات، وهي العملية التي يخشاها مسئولو الحكومة والتقنيون لأنها قد تؤدي إلى بطء كبير في عملية الإصلاح. إلا أن تطوير الإجراءات لإحداث هذا التفاعل على عدة مستويات مختلفة في مراحل الإصلاح سيكون له مردود جيد يتمثل في الالتزام بالإصلاحات والتمسك بها.
ويؤدي ضعف التنمية المؤسسية والنقص الكبير في التنفيذ والإصلاحات سيئة التصميم إلى عجز في الديمقراطية يهدد بانتكاسة عقود كثيرة من التقدم.هذا العجز في الديمقراطية يؤدي إلى الكثير من المصاعب لأنه يسير دون أن يراه أحد من الذين يتفاخرون بحدوث تحول نحو الديمقراطية يؤثر بدرجة أو بأخرى على كل منطقة من مناطق العالم النامي تقريباً.
وبعد أن كانت دول أميركا اللاتينية لعدة سنوات مضرب الأمثال أصبحت تتعرض لأزمات اقتصادية أدت إلى عودة ظهور مبادئ شيوع الملكية وإلى تشكك واسع النطاق في «إصلاحات السوق» المزعومة التي لم يتم تنفيذها في الحقيقة. وقد شهدت دول منطقة وسط أوروبا تغيرات كبيرة خلال عقد التسعينيات، وكانت هي المنطقة الوحيدة التي شهدت نمواً حقيقياً في السنة الماضية. إلا أن دول البلقان ودول آسيا الوسطى ما تزال تنجب قادة يجمعون القوة في أيديهم ويحشدون الحماسة الوطنية ويشوهون «الأسواق» من أجل المصالح الشخصية. وهناك أجزاء متعددة في آسيا مصابة بالاشتراكية والتطرف الديني والأزمات الاقتصادية والديكتاتوريات الراسخة. وتواجه إفريقيا جميع المشاكل التي سبق ذكرها إضافة إلى النزاعات الشديدة والنقص الخطير في البنية الأساسية والأزمات الصحية والأمية وغياب آليات السوق وهياكل الحكم الصالح وخبرة الإدارة في التعامل مع المشاكل بكفاءة.
إقرأ أيضا لـ "جون سوليفان "العدد 2807 - الخميس 13 مايو 2010م الموافق 28 جمادى الأولى 1431هـ