قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال كتب الصحافي اللبناني الشهير الراحل سمير قصير مقالا أسماه «بيروت ربيع العرب»، وكان له حينها وقع كبير في مسرح السياسة اللبنانية المدولّة، وهو مسرح يتقاسم الظهور على خشبته الجميلة والصغيرة «كل الكبار من المنطقة وخارجها» الذين يتناوبون التمثيل وتقاسم الكعكة على حساب بلد الأرز، حيث لا أحد متفرج لهذا المسرح ولهذه المسرحية سوى اللبنانيين وحدهم!
لحسن الحظ، ها أنا في بيروت الآن بعد مرور سنين ثلاث على مقال الراحل قصير، والسعادة تغمرني كلما أزور بيروت، وكأنني أبصرها للوهلة الأولى.
كل شيء في بيروت قابل لأن يعشق... طبيعتها... مقاومتها... تنوعها... جمالها العذري.
قصير قال في مقالته تلك، وهو شاهدٌ على شطرٍ من تاريخ بيروت الحديث، وكم كانت له صولات وجولات في الفراسة والمقارعة والدهاء أيضا: «ثمة يافطة مرفوعة على جادة سليم سلام تقول إن بيروت أكبر من احتوائها. الشعار جميل ولا ريب».
ولكن للأسف سيدي قصير، فقدر لبنان أن يكون مرآة لكل الحراك ولكل التناحر... وبيروت ليست جديدة عهد بساحات الصراع، فهي نامت على أزيز حروب داخلية وخارجية، وبيروت ستبقى دوما غزال الجسد العربي الخائر.
في أعقاب الولادة العسيرة لاتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين، تعزز في بيروت منطق «حكومة المحاصصة» وهو مصطلح حق ربما، ولكن يقتات عليه كثير من أصحاب المصالح وغانمي الغزوات والمتربصين بلبنان شرا، على أن الدعوات لإعادة بناء النظام السياسي اللبناني ليست خاطئة بالمطلق، ولكن البعض يضمر باطلا من جراء هذه الحكومة التي تعكس الطيف اللبناني، فليست الوطنية في إقصاء أحد من أجل صنع شعارات رنانة، وربما كان هؤلاء سعيدين بالتركيبة المشوهة للحكومة عندما كانت تدار بمنطق الاستفراد قبل نجاح المبادرة القطرية، ولا شيء يعارض الحقيقة الكونية بأن الأوطان يمكن أن تؤول إلى نهايات غير سعيدة إذا لم يحسن تدبيرها.
كثيرة هي تناقضات بيروت... تلك قصة قديمة وربما أقدم من شواهد بعلبك الأثرية، ولكنها مستمرة... فقط كنت مستغربا حينما سمعت خبرا طريفا ظريفا يعكس مشهد التناقض اللبناني أو المزايدات السياسية.
فمن إذاعة بيروت المحلية أثناء خروجي من مطار بيروت متجها لفندق في منطقة تعج بالحركة - سمعت جانبا من تصريحات مثيرة أطلقتها نازك الحريري وهي قرينة الشهيد رفيق الحريري، حينما صرحت توا لمجلة غربية شهيرة بأن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك يحظى بشعبية كبيرة لا تضاهى في بيروت تؤهله لأن يفوز بمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية في أية انتخابات عامة، وأردفت الحريري بأن شيراك ذاك كان «أخٌ لم تلده أمي»!
وبالعودة لحديث الغرابة والتناقض، فإن من عادة اللبنانيين - كلهم من دون استثناء - أن الأمل مستحوذ عليهم في كل الظروف على نحوٍ يبعث على الإعجاب، ولذلك لم أكن مستغربا مما قاله سائق سيارة تاكسي، وهو بالمناسبة كان شابا سوريا مقيما هو وأسرته في لبنان منذ أكثر من عقد من الزمان.
سائق التاكسي الشاب كان يشدد على أن لبنان لم يتأثر بتداعيات الأزمة المالية العالمية التي أصابت الاقتصاد العالمي في مقتل، ويستشهد صاحبنا بقوة المصارف والبنوك اللبنانية في الصمود بعد الأزمة، والحق يقال إن مصدرا آخر من مصادر سر الصمود الاقتصادي اللبناني هو الوفرة المالية الكبيرة المتحصلة من «لبنانيي المهجر»، وهؤلاء يساعدون بشكل مباشر في تحريك دورة الحياة الاقتصادية.
بيروت الآن، بل لبنان كله مدعو إلى ولوج مرحلة حراك سياسي ساخن قبل ثلاثة أشهر ونيف من الانتخابات البرلمانية المقبلة، وعلى رغم أن كل الدلائل والتوقعات تشير إلى أن الانتخابات المقبلة لن تحدث زلزالا سياسيا، وإن كان يعول عليها بعض اللبنانيين في تصويب زوايا الصورة الداخلية، ولكن الأرجح هو أن الناخب اللبناني سيصوت مجددا لصالح «اتفاق الدوحة الشهير» بمعنى أن ميزان القوى لن يتغير كثيرا، فكعكة الأطراف الرئيسية المشكّلة للحكومة الحالية الواسعة التمثيل برئاسة فؤاد السنيورة لن يطرأ عليها تغيير جوهري.
لا يخفي بعض اللبنانيين هنا، وخصوصا كبار الساسة منهم تخوفهم من أي تقارب سوري مع دول «محور الاعتدال العربي»، وفي الضفة الأخرى أي تقارب أميركي - إيراني، وهؤلاء يرون أن لبنان - شاء أو أبى - سيبقى إلى أمدٍ ليس بالقصير، وربما للأبد حقل تجارب للأشقاء والأعداء، وسكونه وهيجانه مرتبط ارتباطا عضويا بمنطق التحالفات والتقاطعات التي تحكم معادلة الشرق الأوسط بالغة التعقيد.
ومن حسن الطالع، أنني زرت - ليس المرة الأولى - قبر الرئيس الشهيد رفيق الحريري في قلب بيروت النابض بالحياة «الداون تاون»، وأنا أقف على قبره وبجوار مسجده الذي بناه وفي محيط معجزة العمران «السوليدير» يخالجني الشك من المحكمة الدولية المنوط بها التحقيق في جريمة اغتيال الزعيم الكبير الراحل.
ومنبع توجسي لا من رفض فتح ملف هذه القضية على رغم مضي بضع سنين عليها، لأن الحق لا يسقط بالتقادم، وإنما أخشى من أن تكون لهذه المحكمة - أو من ساندها من «الحيتان الدولية الكبيرة» - مآرب أخرى قد تقف متسترة خلف لواء دماء الشهيد الحريري التي أريقت في جريمة بشعة لا ينبغي أن يفلت من قام بها من العقاب.
اسمح لي يا شهيد الكلمة، يا سمير أن أضع شيئا من الورد على ملحودتك في بيروت الخالدة، واسمح لي أيضا أن أستعين بعنوانك العريض «بيروت ربيع العرب»، ولأقول لك إنها ستظل كذلك مادام في أمتنا بقيةٌ من وعي.
إن خير هدية يمكن أن نقدمها لروح الرئيس الشهيد الحريري ولكل ضحايا المقاومة والحقيقة، هو أن نتلو معا آيات لبنان الواحد الموحد، ولبنان القوي المنيع المتنوع، ولبنان الحضارة والتاريخ والمستقبل، ولبنان المنتصر على الجراحات ولبنان مرفوع الرأس دائما، ولبنان شريان الكرامة وشلال المقاومة الذي لن ينضب، والذي سيظل يصب ماء العنفوان على جثث النظام العربي الهامدة والمحنطة وما أكثرها!
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2381 - الجمعة 13 مارس 2009م الموافق 16 ربيع الاول 1430هـ