تستطيع أن تقول شعرا حين تقارع منافسيك في الانتخابات، لكنك لن تستطيع حياكة السياسة إلاّ بالنّثر. ربما أجاد الوصف في ذلك حاكم نيويورك ماريو أوكومو عندما قال «إننا نخوض الحملة الانتخابية بالشعر، ولكننا نحكم بالنّثر». إنه قول حكيم.
الحِمل الذي خلّفه جورج دبليو بوش ثقيل إلى حد لا يُطاق. وهو بحجم كل شيء مُحبِط حتى النخاع. وبالتالي فإن التغيير «الانقلابي» الذي بشّر به الديمقراطيون وأوباما شخصيا لا يُمكن أن يتم دون مرحلة انتقالية على أقل تقدير.
الإعلامي جون استيوارت طَابَقَ في برنامجه الأخير مقولتين لأوباما مع ما قاله بوش عندما كان الرئيس الثالث والأربعين للولايات المتحدة.
كان الحديث يدور حول انسحاب أميركي من العراق. كانت العبارات متطابقة بالتمام. انسحاب سريع من العراق. لكن ما نُسِبَ إلى بوش لم يَكُن سوى شعرا وليس نثرا. وهو ذات الحال بالنسبة للرئيس الخلاسي.
مشروطة أوباما قالها منذ أشهر. بأن رؤية القادة على الأرض هي التي ستُحدد مصير قواته هناك. واليوم يتمّ الحديث أيضا عن بقاء أفواج من القوات الأميركية سيتم وضعهم كخبراء عسكريين في قوس الجيش العراقي.
ثم قيل أيضا بأن خمسين ألفا من القوات الأميركية سيتم إبقاؤهم في العراق، ليكونوا مستعدين للتدخل السريع عند الحاجة، بالإضافة إلى وجود طيران حربي على المدرج لتوفير الرصد اللازم للقوات العراقية!
وربما تُمسي التصريحات التي يُطلقها مسئولون عراقيون بشأن انسحاب أميركي نوعا من «السّكْرَة السياسية»، لأن ما سيحدث في العراق ليس سوى إعادة انتشار، وليس انسحابا بالمعنى الحرفي.
بمعنى أن القواعد العسكرية ستبقى (وإن) في صحارى العراق في الغرب أو الوسط.
أمرٌ آخر بدا أنه يحتاج إلى ضبط بما فيه الكفاية. فالولايات المتحدة الأميركية عندما اجتاحت العراق استبدلت أعداءها أكثر من أربع مرات. هكذا قال أحمد الجلبي وقد أصاب. فمن صدام والبعث إلى العرب السّنّة، إلى القاعدة، إلى الراديكاليين الشيعة.
ولأنها لم تُفلح في وضع المخطط الهندسي لشخوص السياسة والذي سَبَقَ سقوط بغداد، فإنها اليوم مُلزمة بأن تتعامل مع السياسيين الجُدد الذين تبيّن لها بأنهم رقم صعب في الداخل، حتى ولو كانوا قادة ألوية في الجيش العراقي السابق.
وربما يدور الحديث اليوم أكثر عن استنساخ تجارب العراق في أفغانستان بفصل مشاريع المسلحين المحلية عن مثيلاتها العالمية. بل إن ديفيد كيلكولن (مستشار بترايوس) قال: «تفاوضنا مع تسعين في المئة من الأشخاص الذين كنا نحاربهم» في العراق.
هذا الحال ينسحب بشكل آلي على ملفات ساخنة أخرى وأهمها الملف الإيراني وحوافّه. فمن زيارة فلتمان إلى دمشق، إلى دعوة إيران إلى مؤتمر بشأن أفغانستان، وانتهاء بالإعلان عن عدم امتلاك طهران لوقود كافٍ لصنع قنبلة نووية هي كلها أمارات جديدة في التعامل مع الخصوم.
بالتأكيد لن يُصبح العداء السابق تحالفا جديدا، لكنه سيُوقف من دحرجة الكرة نحو التعاظم في حجم الاختلافات والتناقضات القائمة.
وإذا ما تمّ ذلك فإن الانعكاس سيطال الملف الفلسطيني باعتبار أن السوريين والإيرانيين يُديرونه من موقع الضد للمبادرات الأميركية وحتى العربية.
في العلاقات الأميركية الإيرانية نجد الآتي: قضم إيراني لمزيد من النقاط من خاصرة الضعف الأميركي في المنطقة. ودفع إيراني لخيارين منفصلين أحدهما لدى الصهيوني يُصرّ فيه على إبقاء العامل العسكري في حسم الصراع مع إيران، وآخر أميركي يقبل بالفصل ما بين إيران راديكالية في حياضها، وأخرى متطرفة في محيطها البعيد. والفرق بينهما جدّ كبير. وإذا ما حدث ذلك فعلى الجميع أن يكون مستعدا لتقديم تنازلات.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2381 - الجمعة 13 مارس 2009م الموافق 16 ربيع الاول 1430هـ