يمثل العمل الحقوقي نموذجاً فريداً من نماذج العمل المدني لأنه يقع على الحدود الفاصلة بين العمل الحقوقي القانوني وبين العمل السياسي، وهذا ما يؤدي عادة للتداخل والخلط بين النوعين المختلفين في العمل، ولعل الفواصل واضحة لدى من يعرف طبيعة العمل المدني واختلافه عن العمل السياسي. ويمكننا أن نوضح بعض تلك الفوارق في الآتي:
الأولى: إن العمل الحقوقي هو جزء من نشاط العمل المدني أو العمل الأهلي كما كان يطلق عليه في الماضي. وهذا العمل هو أشبه ما يكون بما يسمى جماعات المصالح الخاصة، وتأتي الخصوصية من تحديد مجال العمل من ناحية، ومن أن أطرافه ليسوا من الحكومات أو السلطات الرسمية في الدولة من ناحية أخرى، ثم من حيث أهدافه وهي أهداف خاصة بمعنى تخص قطاع معين من الأفراد وقضية محددة من القضايا. ولتوضيح ذلك نقول إن مهمة وعمل جمعية وطنية لرعاية الأيتام مثلاً، أو لرعاية ضحايا السجون أو ضحايا الاعتداء الجنسي أو للمعوقين ونحو ذلك هو مجال محدد واضح المعالم، فهي تخاطب فئة معينة في المجتمع، وفي المجال السياسي هناك ما يسمى باللوبيات Lobbies التي تخص صناعة السلاح، أو لوبي لمصلحة قضية سياسية مثل الوحدة الأوروبية أو لصالح دولة معينة مثل اللوبي الأيرلندي أو اللوبي الصيني أو اللوبي العربي في الولايات المتحدة ونحو ذلك. ومن بين اللوبيات أو الجماعات الحقوقية هناك لوبي المادة 19 بخصوص الحرية الإعلامية، ولوبي حرية الصحافة. كل هذه اللوبيات والجماعات تعرف أبعاد أنشطتها بعيداً عن الطموحات والإيديولوجيات السياسية ولا ينتمي أعضاؤها لأي حزب سياسي أو يجمد عضويته النشطة في العمل السياسي.
الثانية: اختلاف الهدف النهائي لمنظمات المجتمع المدني عن الهدف النهائي للمنظمات السياسية الحزبية، الأولى هدفها الدفاع عن مصالح أعضائها أو الترويج لفكرة ما، هي مدار اهتمامها. أما الثانية فهدفها سياسي بمعنى تجنيد الأنصار والأتباع والحشد السياسي ونقد السلطة القائمة سعياً للحلول محلها، فحزب المحافظين في بريطانيا أو الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة كان ينتقد خصومه وهم في السلطة مثل حزب العمال أو الحزب الديمقراطي، وهم بالتالي ينتقدون سياسته وهو في الحكم عندما يكونون في المعارضة. إذاً الهدف مختلف والوضع يتغير بحسب العلاقة بالسلطة الحاكمة، فليست هناك معارضة دائمة لأجل المعارضة. ولكن في المنطقة العربية نجد الصورة مختلفة فالحزب السياسي عندما يصل للسلطة لا يرغب في تركها إلا على أسنة الرماح ويدعي بأن الانتخابات مزورة إذا لم ينجح، أما إذا نجح فيدعي أن الانتخابات نزيهة. ولعل أكثر الأمثلة التي تثير الدهشة الانتخابات الأخيرة في العراق التي أجريت تحت مؤثرات ضخمة من الحكومة، ولكن عدم حصول تكتل رئيس الوزراء على الأغلبية جعله يندفع مهدداً خصومه بأن لديه وزارة الداخلية ووزارة الدفاع، ويتساءل باستغراب كيف يسقط وزراء مثلهم في الانتخابات، ثم يتهم اللجنة المستقلة الخاصة بالانتخاب بالتزوير لمصلحة خصومه، وكان قبل ذلك بأيام يشيد بنزاهة الانتخابات عندما كانت عملية الفرز تشير إلى تقدمه. أما في الانتخابات البريطانية الأخيرة فإن رئيس الوزراء جولدن براون الذي ينتمي لحزب العمال، أعلن قبل أن يصدر ذلك رسمياً من لجنة الانتخابات فشل حزبه، وقبوله تغير ثقة الناخب البريطاني فيه، والشيء نفسه حدث ويحدث في الانتخابات الأميركية أو الفرنسية أو الألمانية أو حتى في الانتخابات الهندية. بل وأيضاً في الانتخابات الباكستانية الأخيرة. أما في الدول العربية العريقة في الديمقراطية سواء ديمقراطية ليبرالية أو إسلامية، فإن الوصول للسلطة يعني تفويضاً مستمراً، رفض الانسحاب منها للطرف الآخر لأن المفاهيم والقيم لدينا، للأسف مختلفة تماماً، وغير واضحة. ولعل هذا ما يذكرنا بالنظرية الفلسفية المسماة الوضعية المنطقية، وتركيزها على أن نقطة البداية هي تصحيح المفاهيم وتحديد مدلولاتها حتى يمكن للأطراف أن يتفاهموا ويتحاوروا معاً.
وليس لدى اللوبي أو جماعات المصالح أو ما يسمى أحياناً بجماعات الضغط Pressure Groups في أي نظام سياسي أي هدف سياسي، وهم بعيدون عن كونهم جماعة معارضة عامة أو عن السعي للوصول للسلطة، إنهم يتعاملون مع أي حزب حاكم أو سلطة حاكمة وفقاً لمصلحتهم.
الثالثة: إن المؤسسات أو الهيئات المسماة وطنيةNational Institutions التي دعت لتكوينها الأمم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة رقم 48 /138 في العام 1993 هي مؤسسة تقوم على ركائز: الأولى: إنها ذات صبغة وطنية أي تعبر عن المجتمع ككل وليس عن تجمع أو فئة أو جماعة، الثانية: إن أعضاءها ينتمون لمختلف الأطياف في المجتمع وليس إلى طائفة أو فريق أو حزب، الثالثة: إن محور عملها هو القضية الحقوقية بمعناها القانوني وليس بمعناها السياسي، الرابعة: إنها تعمل في ضوء اختصاص عام و محدد في نفس الوقت وهو تقديم المشورة لسلطات الدولة في مجال حقوق الإنسان بوجه عام وليس خاصا بفئة أو طائفة أو عرق أو جماعة أو حزب، فهي إذاً تختلف عن الحزب السياسي، كما أنها ليست سلطة فوق سلطات الدولة، وليس لها حق فرض آرائها، وإنما الترويج فقط لمفهوم حقوق الإنسان وتقديم رؤيتها للسلطات المختلفة.
إذاً، هي لا تعبر عن فكر الحكومة، ولا عن فكر المعارضة، وهي ليست ضد الحكومة، كما أنها ليست ضد المعارضة هي أقرب لمجموعة من الحكماء ذوي الخبرة والحنكة، يعبرون عن آرائهم الشخصية كجهة مستقلة ومحايدة ويتخلون عن انتماءاتهم الحزبية أو الدينية أو الطائفية أو العرقية في ممارستهم لعملهم الحقوقي، ومهمتهم تقديم النصح والرأي الاستشاري للمؤسسات الرسمية ومتابعة ورصد أية انتهاكات تحدث لحقوق الإنسان في الدولة المعنية، ولها أن تنشر تقاريرها بجميع الوسائل وترسلها لأجهزة الدولة وللأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية. ومن هنا تبرز قيمة هذه المؤسسة.
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2805 - الثلثاء 11 مايو 2010م الموافق 26 جمادى الأولى 1431هـ