أحار كثيراً وأنا أستمع إلى مبعوث الرئيس الأميركي إلى السودان «سكوت جريشن» وهو يتحدث عن أهمية فصل الجنوب بطريقة سلمية سلسة، ويطوف ما بين الخرطوم ودارفور وجوبا ليؤصل موضوع الانفصال وكأن هذه القضية هي قضية أميركية بامتياز أكثر مما هي سودانية أو عربية.
ويزداد عجبي من الصمت العربي - إلا فيما ندر - ومثله الصمت الإسلامي، وأشدّ منه الاسترخاء السوداني وكأن انفصال الجنوب لا يشكل أهمية كبرى عند الحكومة السودانية فتركت لبعض الدول حرية الحركة تجاه هذه المسألة الحيوية التي كانت يجب أن تكون في مقدمة أولوياتها!
حكاية تفتيت الوطن العربي ليست جديدة، فقد كان السودان ومصر بلداً واحداً، ثم فرّطت مصر في الوحدة لأسباب كثيرة، واليوم قد يصبح السودان دولتين، وإذا كان بعض السودانيين لا يستشعرون خطورة هذا الانقسام فإنهم سيذاقون مرارته فيما بعد، وقد تتكرر المأساة مرة أخرى في دارفور!
الملاحظ أن الصهاينة والأميركان يعملون بجد على فصل الجنوب ليصبح دولة مستقلة هشة يستطيعون بلعها بسهولة ثم الدخول من خلالها إلى دول إفريقية أخرى يستغلون ثرواتها وأبناءها أسوأ استغلال!
الصهاينة سبق أن دربوا قوات الحركة الشعبية في أريتريا، وأعطوهم سلاحاً متنوعاً، كما أن خبراءهم العسكريين ينشطون حالياً في «جوبا» عاصمة الجنوب، بل إنهم استضافوا بعض المتمردين في دارفور وقدموا لهم تسهيلات تعينهم على التمرد والفتنة.
والسؤال: لماذا يفعل الصهاينة كل هذا؟! ولماذا يقف معهم الأميركان؟! من نافلة القول إن هؤلاء لا يتحركون لمصلحة الجنوبيين، فهم من أكثر الناس احتقاراً للجنس الأسود، كذلك هم لا يتحركون لدوافع إنسانية كما يدعون وإلا لما ساهموا في قتل وحصار الفلسطينيين، لكنهم يتحركون لتحقيق مصالحهم الذاتية وبكل الطرق مهما كان نوعها!
الأميركان يبحثون عن الثروات في أي مكان ووجدوا في شرق إفريقيا مناجم هائلة من الثروات فأرادوا الاستيلاء عليها.
لقد لفت «الصادق المهدي» الأنظار إلى هذه المسألة، مضيفاً: إن أميركا تريد أن تجد لها موقعاً جغرافياً يمكنها من التحكم في شرق إفريقيا وفي منطقة الخليج في الوقت نفسه فكان جنوب السودان هو الموقع المناسب.
ومن الواضح أن النشاط الأميركي لإنجاز مصالحة بين الحكومة السودانية والجنوبيين إنما هدفه تحقيق مصالح اقتصادية لأن كثيراً من مواقع النفط تقع في الجنوب.
ويشترك الأميركان مع الصهاينة في العمل على كسب مناطق الماس والمعادن، فأغلب تجار الماس في العالم من اليهود أمثال «ليف ليفايف» الروسي الأصل الذي كان يعمل في الجيش اليهودي ثم أصبح من أقطاب تجار الألماس ويعد من أكبر الممولين لبناء المستوطنات في فلسطين. ومثله الصهيوني «دان جيرتلر» وهو من المقربين لوزير خارجية «إسرائيل» الحالي ومن الناشطين في تمويل الإرهاب الصهيوني.
الصهاينة يريدون المال لتمويل أنشطتهم الاستيطانية والأميركان يريدونه مثلهم لمصالحهم، ومادامت المصالح واحدة فليتعاون الجميع من أجل تحقيقها.
ولا ننسى أن تفتيت أي دولة عربية لاسيما إذا لم تكن مع «إسرائيل» سراً أو علانية فهو يحقق مصلحة الصهاينة لاسيما أن كثيراً منهم مازالوا يحلمون أن دولتهم ستكون من النيل إلى الفرات!
هناك مصائب كبيرة ستنشأ قبل التقسيم، وأكبر منها بعده، وكل العرب سينالهم نصيبهم من هذه المصائب خاصة مصر!
مشكلة ترسيم الحدود ستكون في غاية الصعوبة فليس هناك حدود متفق عليها باعتبار أن الجنوب جزء من السودان ولم يكن له حدود معروفة وإنما هناك حدود إدارية وهي تختلف تماماً عن الحدود السياسية... وإذا تم اعتماد هذه الحدود سياسياً فإنها ستقطع أوصال بعض القبائل وهذا لن يمر بسلام.
وهناك مناطق ذات ثروات متنازع عليها مثل «حفرة النحاس» و»آبييه» وهي مناطق يعيش فيها الشماليون والجنوبيون، والجنوبيون يريدون ألا يصوت الشماليون في هذه المناطق على موضوع الانفصال، فهل يقبل الشماليون؟! وهل تقبل الحكومة السودانية؟!
وهب أن الانفصال وقع فعلاً فالمعروف أن قبائل الدنكا وقبائل النوير هي أكثر القبائل عدداً في الجنوب وبينهما تقاتل عنيف، ولن تقبل قبائل النوير أن تأخذ غريمتها كل شيء... ستصمت حالياً حتى يأخذوا الكعكة ثم سيتقاتلون عليها، وهنا لن تقف مشاكلهم عند حدودهم.
العرب تحركوا متأخرين، شارك بعضهم في المحادثات الدولية التي عقدت قبل بضعة أيام في أديس أبابا لبحث موضوع وحدة السودان وخطر التقسيم وكذلك موضوع دارفور، ولا أعتقد أنهم سيخرجون بحلول عملية تبقي للسودان وحدته لأن هذا الهدف يحتاج إلى بذل المزيد من الجهد والتخطيط والإنفاق لجعل وحدة السودان جاذبة لكل الأطراف.
أقول: إن مصر ستتأثر من الانفصال إذا وقع فاعتمادها على ماء النيل قد يأتي من يهدده ولن ينفعها قول بعض مسئوليها: إن مياه النيل خط أحمر؛ لأن على الطرف الثاني سيكون الأميركان والصهاينة ولن يجاملوها كما تجاملهم في التضييق على المقاومة وعلى غزة.
من مصلحة مصر أن تقود حملة قوية وجادة للحيلولة دون انفصال الجنوب، ومن مصلحة العرب أن يقفوا معها وكذلك المسلمين جميعاً لأن التمدد الصهيوني سيلحق الأذى بالجميع.
أما حكومة السودان فإذا كانت قد فرّطت في الماضي فيجب عليها أن تستيقظ اليوم، فالخطر قادم لا محالة إن هي استكانت ولم تعمل بكل قوة على جعل وحدة السودان مطلباً لكل السودانيين؛ شمالهم وجنوبهم، ولن يتحقق ذلك إلا بتحقيق العدالة المطلقة لكل سوداني في أي مكان كان.
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 2804 - الإثنين 10 مايو 2010م الموافق 25 جمادى الأولى 1431هـ