تكشف المعركة الانتخابية التي تشهد نهاياتها الولايات المتحدة عن بؤس الديمقراطية في بلد تسيطر عليه اللوبيات (أجهزة الضغط) ويرجح الإعلام كفة المتنافسين. وتبدأ المشكلة من اللغة المتداولة. فكل فريق يظهر محاسنه من خلال خطب حماسية تريد كسب المشاعر ولا تكترث كثيراً لعقول الناس. فالصراع على الأصوات هو الهدف وليس الهدف هو تقديم البرامج السياسية التي تقرأ الثغرات وتحاول الرد عليها بطرح سلسلة أفكار تؤسس لمشروع عاقل يتوخى بناء دولة تحترم مصالح غيرها في عالم يشهد تحولات على مختلف المستويات.
مشكلة اللغة في المعارك الانتخابية الأميركية باتت مسألة مهمة، لأنها في النهاية تعكس مستوى الوعي السياسي المتدني الذي تعبر عنه أحزاب السلطة. فالمرشح يعتمد على المال أولاً لا على البرامج. والمال يأتي من اللوبيات. واللوبيات تمثل مصالح الشركات والصناعات وجماعات الضغط التي تتحرك للدفاع عن أعراق ومجموعات ملونة أو دينية أو سياسية.
هذا النوع من «الديمقراطية» يطرح أسئلة بشأن مدى تمثيل البرلمان (المجلس النيابي) لمصالح الناس. فالكونغرس الأميركي منذ تأسيسه كان دائماً قاعة تتحرك في داخله مجموعات ضغط تلعب دورها في التأثير في صنع القرار أو في حرف أنظار الناس عن مصالحها الحقيقية. وهذا النوع من الكونغرس كان عرضة للقبول بالمناخات السياسية التي تسيطر على مصالح جماعات الضغط وغيرها من لوبيات تستثمر المال في أعضاء الكونغرس (الشيوخ والنواب) وتنتزع قرارات لا تتناسب دائماً مع المصالح الأميركية العليا وأحياناً توظف خدمة لأغراض دولة واحدة ضد عشرات دول لا تقل أهمية في موقعها الاستراتيجي عن تلك الدولة.
مثل هذه «الديمقراطية» الأميركية تعرضت مراراً للنقد ودخل أحياناً أنصار الفكر النخبوي (النخبة الليبرالية) في معارك سياسية مع أنصار النزعة الشعبية (التيار الديمقراطي) لتحديد معنى التمثيل الحقيقي لمصالح الناس. وتركزت معظم تلك المعارك في حقل أساسي وهو مسألة التصويت أو «المساواة في التصويت». فالنخبة دائماً كانت تؤكد أن الديمقراطية لم تنجح حتى الآن في تجاوز فكرة «المساواة في التصويت». فهذه المساواة شكلية وهي تحصل مرة واحدة كل أربع سنوات. وبعد التصويت يعود كل فرد إلى مكانه وينتهي دوره. فالغني يبقى كما هو وأيضاً الفقير. فالتصويت لا يغير الواقع، ولكنه يسهم بحدود معينة في تقديم صورة مصغّرة وموجزة ومؤقتة عن التساوي في الأصوات. فالغني له صوت كذلك الفقير. والمنتج له صوت والعاطل عن العمل كذلك. وكذلك تتمتع الديانات والألوان والأقوام كلها بأصوات متساوية. وبعد أن تنتهي العملية الانتخابية يعود كل صوت إلى مكانه لتبدأ الديمقراطية دورها في مواصلة العملية التمثيلية. فبعد الانتخابات تنتهي السياسة وتبدأ لعبة القرارات التي تحسن إدارتها وتحدد مواصفاتها أجهزة محترفة مربوطة باللوبيات وجماعات الضغط.
وبين دورة ودورة تتحرك اللعبة السياسية بين الشد والضغط لتضع القوانين التي تعكس في النهاية مصالح مؤسسات النقد وشركات انتاج الطاقة أو الصناعات الحربية أو المدنية.
هذا النوع من السياسة يمكن ملاحظة ألوانه المختلفة من خلال مراقبة اللغة التي تخرج إلى الجمهور طوال فترة الجولات الانتخابية. فاللغة تشير ضمناً ومن اللاوعي إلى ذاك الصراع بين الأفكار والمصالح. فهل الأفكار تحدد المصالح أم العكس؟ وهل تصنع المصالح الأفكار وتنتج الدستور والقانون وترشد السياسة أم العكس هو الصحيح؟ وهل صحيح أن الأفكار أحياناً تحدد المصالح وتعيد انتاجها وتؤثر عليها فتتحول بحكم العادة إلى مفاهيم مطلقة تتجاوز مكانها وزمانها وبالتالي تضطر إلى التصادم الموضوعي مع مصالح الشركات واللوبيات ومجموعات الضغط؟
هذه أسئلة. وأهمية الأسئلة أنها تكتسب أحياناً مشروعيتها في لحظة تشهد فيها الولايات المتحدة معركة مصيرية لتقرير وجهتها السياسية في السنوات الأربع المقبلة.
الناخب الأميركي يميل إلى البساطة في وعيه السياسي، وهو لا يتمتع بتلك القدرة على القراءة وتحديد الاختيار الصحيح. فهو مجرد ألعوبة تتقاذفه أمواج اللوبيات المنظمة ومجموعات الضغط لتحصل على صوته وبعد ذلك يغيب عن الصورة لتظهر لاحقاً في المشهد السياسي شخصيات واتجاهات تصنع القوانين وتتخذ القرارات التي تناسب مصالح النخبة (مؤسسات وشركات قابضة) ولا تكترث بمصير ذاك الصوت الانتخابي الذي يتراكض المتنافسون لكسب وده كل أربع سنوات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 786 - السبت 30 أكتوبر 2004م الموافق 16 رمضان 1425هـ