العدد 785 - الجمعة 29 أكتوبر 2004م الموافق 15 رمضان 1425هـ

اختناق

محمد فاضل العبيدلي

مستشار في مركز دبي لبحوث السياسات العامة

هل تشعرون برغبة في الضحك او الابتسام هذه الأيام؟ الآن أصبحت لدينا مشكلة جديدة ملموسة ومعاشة بقوة اسمها الاختناقات المرورية.

لدينا خطة مازالت لم تأخذ حقها من النقاش لمكافحة البطالة واصلاح الاقتصاد والتعليم. أزمة جديدة بشأن مجلس بادر بتأسيسه عدد من رجال الدين الشيعة. آمال البسطاء من الناس تصعد وتهبط على وقع النقاش بشأن عيدية «الخمسمئة دينار»، يتساءلون في كل مكان: هل ستكون 500 دينار؟ أم علاوة «بونس» بحسب الأداء الوظيفي؟ هل ستوافق الحكومة على مقترح البرلمان ام ستصرف العلاوة؟ وفي نهاية المطاف لن يبتسم احد او يتفاءل: ماذا بعد صرف هذه العلاوة أو العيدية؟ هل يكفي هذا لحل مشكلة الفقر والمعاناة؟. ثمة الكثير من المساعدات التي تصرف، جمعيات خيرية ودينية تصرف وتساعد الفقراء، لكن مشكلة الفقر لم تتزحزح. والمساعدة ستبقى في نهاية المطاف مساعدة وليست حلا سواء اكان بمدلول الكلمة نفسها ام ما بالاستدلال العقلي ام بحقائق الاقتصاد التي لا ترحم.

الاستدلال العقلي؟. تبدو هذه مفردة طارئة واستخدام الاستدلال العقلي نفسه نادر. المحنة الحقيقية هي اننا نكتب دوما عن العقل والعقلانية لكننا لا نستخدم اي منهما، لا نستخدم العقل ولا نستخدم العقلانية في الحكم على الامور. الناس متحفزون دوما للحكم على الامور بعيدا عن مقاييس العقل بل بالتعامل بذهنية «الكتل الصماء».

لنشرح الامر قليلا. هل تم التعامل يوما مع الحياة السياسية الناشئة في البلد بعيدا عن الاحكام الجاهزة: سنة وشيعة وعلمانيون وغيرها من هذه التصنيفات؟. هل يتعامل الناشطون انفسهم بعيدا عن هذا التقسيم؟ يكثر الحديث عن الوحدة الوطنية والخطب والمقالات تفيض بالمفردات البليغة، لكن في المحكات الحقيقية لا أحد يحتكم الى العقل بل الى العواطف والانتماءات الصغيرة. لا يحتكم احد الى مقياس بسيط للغاية اسمه: «المواطنة». المواطنة بما تعنيه من مساواة امام القانون واعتراف متبادل بالحقوق والواجبات، أي التعامل من دون أي تصنيف مسبق لأن المواطنة تتقدم أي تصنيف من اي نوع.

مفردات بسيطة يبدو تكرارها استعارة من كراس مدرسي والسبب ان هناك هوة عميقة بين الخطاب والممارسة. هوة بين ما يقرأه الناس وما يسمعونه من الحكومة والناشطين والنواب والفعاليات والكتاب والصحف، لهذا يرون ان واقعهم لا يتحرك ابدا ومشكلاتهم تبدو مكررة بل وتتضاعف وسط حالة من التخبط بين اجهزة تنفيذية اعتادت ألا يناقشها احد ومجالس وهيئات منتخبة يفترض ان تشارك الحكومة في صنع القرار. هل عرفتم لماذا لا يضحك البحرينيون ولا يبتسمون هذه الايام؟ لانهم غير مسترخين لا ذهنياً ولا نفسياً، غير مطمئنين للمستقبل وكل ما يجري ينتزع منهم ابسط اسباب التفاؤل والاسترخاء.

المواطنة الضائعة والمواطن الذي مازال ينتظر له تعريف آخر في البرلمان. فالبرلمان مشغول بهاجس تفصيل حياة الناس بالمسطرة والقلم، ماذا يلبسون وماذا يفعلون في هذا المكان او ذاك. البرلمان مشغول الآن بقواعد الحشمة واستحداث جهاز من المخبرين والوشاة بشكل رسمي. مخبرين ستصرف عليهم موازنات اضافية ولا عمل لهم سوى مراقبة ثياب طلاب الجامعة وان يحصوا عليهم سكناتهم وانفاسهم لأن الحشمة لا تتعلق إلا بالملابس.

لنعد إلى الاستدلال العقلي ونتساءل: هل اصبح الطلاب الذين جاءوا من آلاف البيوت والعائلات أناس أصبحوا بلا حشمة لمجرد دخولهم الجامعة؟ ألا يعني مسعانا هذا اننا نفترض ان كل هذه العائلات لا تملك منظومة اخلاق تنقلها لابنائها وبناتها؟ لماذا التعامل مع المجتمع كله وكأنه مجتمع غارق في الخطايا والزلل؟ لماذا التعامل مع الناس دوما وكأنهم من دون اخلاق وكأنهم لا يعرفون مقاييس الخطأ من الصواب؟ من يعطينا الحق في الحكم على الناس انهم بلا حشمة؟

طلاب وطالبات جامعة البحرين لا يختلفون عن اي شاب او فتاة في بلادنا في اي شيء، فهم لم يأتوا من كوكب آخر. فهم مهذبان ومؤدبان وملتزمان بكل قواعد السلوك التي تربوا عليها وسط عائلاتهم. واثقون من انفسهم مثل كل ابناء الجيل الذي ينتمون اليه، يعرفون الخطأ من الصواب ويملكون من القدرة على التفكير الشيء الذي قد يدهش النواب الذين لا يرون فيهم سوى مصدر للشرور والزلل.

ولنتساءل أيضاً: أيهما أجدى، ان نصرف الاموال على بناء الجدران العازلة وتوظيف جيش من المخبرين على طلاب لم تسجل الجامعة في تاريخها أي تجاوز خطير منهم، أم نصرفها لبناء مراكز أبحاث في الجامعة ومختبرات علمية واستحداث تخصصات جديدة وتطوير الجامعة نفسها؟.

الفارق جلي وواضح، ومنذ ان دشن البرلمان اعماله لم نسمع نائباً يطالب مثلاً بزيادة موازنة الجامعة لتطويرها أو إنشاء مراكز بحث علمي فيها مثل كل الجامعات بل يتم الحديث عنها دوماً وكأنها «بؤرة الشرور».

لكن هذا الجدل مثل كل الجدل الذي نغرق فيه، يستعيض الناس فيه المناقشة العقلانية بالغرق في تبادل الاتهامات واستدعاء العواطف والانتماءات الفرعية والصغيرة. البعض ممن سيقرأ هذا المقال سيقول إنني أهاجم الإسلاميين ولن يقول إنني أناقش الفكرة نفسها. هذا استنتاج مريح للذهن مثل كل الاستنتاجات المريحة للذهن التي أصبحت تتحكم فينا. لكن حذار، فالاستنتاجات المريحة للذهن هي بالضبط ما نشكو منه وما نحذر منه لانها تقفل أبواب النقاش العقلاني، إنها أسلوب ومنطق الكتل الصماء: سنة، شيعة، علمانيون، شباب منحرف، متدين، غير متدين، من هذه المنطقة، من تلك المنطقة وهكذا

إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"

العدد 785 - الجمعة 29 أكتوبر 2004م الموافق 15 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً