العدد 785 - الجمعة 29 أكتوبر 2004م الموافق 15 رمضان 1425هـ

«الحكم الصالح» يتطلب شفافية وإصلاحات إدارية وقضائية وسياسية

منصور الجمري editor [at] alwasatnews.com

رئيس التحرير

الاجندة الوطنية في البحرين تراوح بين متطلبات واتجاهات اساسية، وانعدام الصورة لدى البعض قد يؤدي بالوضع الى العودة الى الوراء. الحركة المطلبية حققت جزءا هاما من مطالبها، ولكنها تعيش الآن خطرا حقيقيا قد يؤدي الى خسارة الانجازات، مهما كانت هذه الانجازات كبيرة أم صغيرة.

ويقع في جوهر الخلاف الاولويات بين الاتجاهات الفاعلة في الساحة (الرسمية منها والأهلية)، وفي المحصلة يحدث الشد والجذب في اتجاهات متعاكسة، بين من يود التنازل عن شيء مقابل شيء، ومن يود الاصرار على هذا أو ذاك.

غير ان البحرين جزء من «القرية الكونية» التي تتحرك بتناسق لم يحدث له مثيل في التاريخ. والاجندة الدولية تتحدث حاليا عن ان «التنمية» حق لكل مجتمع، وان هذه التنمية يجب ان تكون مستدامة، ولكي تكون «مستدامة» فإن ذلك يتطلب وجود «الحكم الصالح» المعتمد على اصلاحات ادارية وقضائية وسياسية، مع شفافية في الممارسات والاجراءات.

وهكذا اصبح «الحكم الصالح» عنوانا للدبلوماسية الدولية، وعلى هذا الاساس تطالب الامم المتحدة كما يطالب كل من البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية اثبات وجود «الحكم الصالح» لكي تحصل هذه الدولة او تلك على الاحترام الدولي وعلى المساعدة الدولية وعلى المكانة الدولية ذات النفوذ والتأثير.


«التنمية المستدامة» على ألاجندة الدولية

الإصلاح الإداري... والإصلاح السياسي توأمان للحكم الصالح

الوسط - منصور الجمري

منذ انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الانسان في فيينا العام 1993، والاجندة الدولية تتحرك باتجاه تعزيز ما اتفق عليه المجتمع الدولي، وهو ان «التنمية» حق لكل مجتمع، وان هذه التنمية يجب ان تكون مستدامة، ولكي تكون «مستدامة» فان ذلك يتطلب وجود «الحكم الصالح».

هكذا اصبح «الحكم الصالح» عنوانا للدبلوماسية الدولية لبعض الدول، وعلى هذا الاساس تطالب الامم المتحدة كما يطالب كل من البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي ومنظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية اثبات وجود «الحكم الصالح» لكي تحصل هذه الدولة او تلك على الاحترام الدولي وعلى المساعدة الدولية وعلى المكانة الدولية ذات النفوذ والتأثير.

الحكم الصالح

اذن ومنذ العام 1993 بدأت حركة عالمية انطلقت من المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان الذي نظمته الأمم المتحدة وطرحت خلاله مواثيق وتعهدات جديدة وافقت عليها جميع الدول الأعضاء من دون استثناء. ومن المواثيق الحقوقية الجديدة التي اتفق عليها العام 1993 «حق التنمية»، وان لكل شعب أن يحصل على متطلبات التنمية المستدامة، وان أهم عنصر للتنمية هو الشعب ذاته، فهو الوسيلة وهو الهدف في الوقت ذاته، ولذلك بدأ الحديث يزداد عن «الموارد البشرية» والمؤشرات المتعلقة به والتقارير المتتابعة.

غير أن الحركة العالمية طرحت أيضاً مفهوم «الحكم الصالح»، واشترطت الدول الغنية أن تتَّبع الدول التي تحتاج إلى مساعدة نموذج «الحكم الصالح» قبل أن تتأهل للحصول على المساعدات. وتوسع المفهوم كثيراً وأصبح الآن جزءاً من الأجندة العالمية.

الحكم الصالح يعتمد على أعمدة أساسية وهي «إدارة عامة» فاعلة ومتطورة ومستجيبة لمتطلبات العصر، و«حكم القانون» المعتمد على القضاء المستقل والملتزم بالعهود والمواثيق الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، و«المشاركة الشعبية» المعتمدة على الحريات العامة والمجتمع المدني والصحافة الحرة، و«الشفافية» التي تمنع انتشار الفساد الاداري والمالي والسياسي.

هذه الأعمدة الأساسية للحكم الصالح أصبحت لها مؤشرات، وتعهدت عدد من الدول بطرح برامج ومشروعات على مستوى السياسات الخارجية والاقتصادية للتأكد من انتشار مفهوم وممارسات الحكم الصالح.

من آثار ذلك نشاهد في البحرين عدة مشروعات ونشاطات مرتبطة بدعم مفهوم الحكم الصالح. فالجمعية البحرينية لحقوق الانسان عقدت في 13 - 15 ابريل/ نيسان الماضي ورشة عمل عن الحكم الصالح. وقبل ذلك في العام 2003 قررت الادارة الأميركية دعم مشروعات الدمقرطة وممارسات الحكم الصالح في الشرق الأوسط وخصصت 47 مليون دولار لعدة دول شملت البحرين، وهي تمول مؤسسة الـ «إن. دي. آي» الذي تعتمد عليه السياسة الخارجية الأميركية في نشر مفاهيم ممارسات الحكم الصالح. كما عقدت أميركا في سبتمبر/ أيلول 2003 مؤتمراً قضائياً اشترك فيه قضاة عرب وأميركان لدعم مفاهيم حكم القانون واستقلالية القضاء.

بريطانيا أيضاً لها عدة مشروعات لدعم ممارسات الحكم الصالح، فهي تساند المجلس الأعلى للمرأة لتمكين المرأة في الحياة العامة. وتساند مشروع البرلمان الشبابي وتساند البرلمان من خلال مؤسسة «ويست مينيستر فاوندايشن»، وخلال هذا العامين 2003 و2004 دعمت الأمم المتحدة مشروع «استراتيجية الشباب» في البحرين وطرحت برنامجاً متطوراً ولكنه يظل حبراً على الورق لعدم تمكن الإدارة العامة من الاستجابة لما طرحته الاستراتيجية المهمة جداً.

في خضم ذلك، تخرج علينا الأخبار مخلوطة... فهناك تأسيس معهد الإدارة العامة، وهو خطوة إلى الأمام، ولكن هناك تصريحات مجلس النواب وبعض الجهات التي هاجمت السفارتين البريطانية والأميركية. والسبب في المهاجمة هو البرامج التي تدعمها كل من أميركا وبريطانيا باتجاه تقرير مفاهيم وممارسات الحكم الصالح المذكورة أعلاه.

الاصلاح الإداري البحريني

عوداً إلى مطلع القرن العشرين، كانت البحرين من دون إدارة حديثة، وبسبب ذلك كانت تحدث مظالم كثيرة ولم يكن بالإمكان معرفة ماذا يدور في شئون البلاد بصورة علمية كما لم يكن بالإمكان إدارة الشأن العام. ثم بدأت الإصلاحات الإدارية في 1919 من خلال تأسيس البلدية ودائرة «الطابو». دائرة «الطابو» كانت أهم خطوة في تاريخ الاصلاح الإداري البحريني، فقبل ذلك لم تكن الأراضي مسجلة وكان كثير من أراضي الناس يستحوذ عليها، ما دفع الكثير إلى تحويل أراضيهم إلى أوقاف دينية حماية لها من الاستيلاء عليها. وهذا يفسر لماذا كثرت أراضي الأوقاف في البحرين؟ ويفسر لماذا مازالت أكثر من 800 أرض غير مسجلة رسمياً لحد الآن. في العام 1926 حدثت «قفزة إدارية» عندما تم تعيين المستشار البريطاني تشارلز بليغريف الذي جاء إلى البحرين لمساندة الحاكم في إدارة شئون البلاد.

بليغريف عليه الكثير من المؤاخذات والسلبيات، ولكن إيجابية وجوده تكمن في تأسيس «الإدارة العامة» الحديثة للبحرين. فقد كانت البحرين أول دولة خليجية عربية لديها حسابات مالية ولديها دوائر حكومية منظمة على النمط البريطاني والهندي (الهند كانت تابعة إلى التاج البريطاني آنذاك).

صاحب تطوير «الإدارة العامة» ظهور عصر النفط في البحرين العام 1932، وهذا أدى إلى عدة قفزات نوعية في الأداء والانتاجية إلى الدرجة التي كان الكويتيون والسعوديون يزورون البحرين للاطلاع على وسائل الإدارة الحديثة وينقلون الخبرات البحرينية إليهم.

رفض الإصلاح السياسي

في العام 1938 نشأت أول حركة وطنية حديثة وطالبت هذه الحركة بإصلاح سياسي (حقوق سياسية وحريات عامة وبرلمان تشريعي وقانون مدني مكتوب... الخ). غير أن بليغريف وقف بشدة ضد مطالب الإصلاح السياسي، وقال إن البحرينيين لا يحتاجون إلى برلمان إلى مئة سنة مقبلة.

بعد ذلك ظهرت انتفاضة هيئة الاتحاد الوطني ما بين 1954 و1956 للمطالبة بالإصلاح السياسي، وكادت أن تحصل عليه لولا تداخل الأمور ومن ثم قمع الانتفاضة وإعلان حال الطوارئ في ديسمبر/ كانون الأول 1956.

إذ قمع مطلب الإصلاح السياسي، ولكن الإصلاح الإداري استمر من دون خلل كبير ولكن مع الاستقلال في العام 1971 طرأت الحاجة إلى الإصلاح السياسي لمواكبة الإصلاح الإداري. وفعلاً تم انتخاب المجلس التأسيس (نصف منتخب) لكتابة الدستور، وفي العام 1973 انتخب المجلس الوطني (30 عضواً منتخباً بالإضافة إلى 14 وزيراً أعضاء بحكم مناصبهم)... ولكن العام 1975 شهد حل المجلس الوطني وإغلاق ملف الإصلاح السياسي.

بين الأعوام 1975 و1986 شهدت البحرين فترة ذهبية. فقد استفادت من تطور إدارتها العامة وبنيتها التحتية التي كانت متفوقة على باقي دول الخليج، وإضافة إلى ذلك ازدادت أسعار النفط وانتقلت المصارف ووحدات الافشور من لبنان (بعد الحرب الأهلية التي بدأت العام 1975) إلى البحرين. وبدا للحكومة، كما كان يعتقد بليغريف من قبل، أن وجود إدارة عامة حسنة يكفي ويمكن الاستغناء بها عن الإصلاح السياسي.

إدارة مترهلة

غير أن الإدارة بدأت تترهل، وأصبحت الإدارة العامة «حقلاً» يستفيد منه البعض، وفي كثير من الأحيان تستخدم قناعاً للبطالة المقنعة. وإضافة إلى ذلك، انتشرت مظاهر التمييز بين المواطنين والواسطة وحتى الرشوة. وفي العام 1986 هبطت أسعار النفط وتغيرت الظروف وفجأة اتحد العجز الديمقراطي (عدم وجود إصلاح سياسي) مع العجز الإداري الذي لم تكن هناك أموال إضافية لتسييره وتغطية نقائصه.

تفاقمت المشكلات في البلاد مع ازدياد أعداد العاطلين عن العمل وانتشرت مظاهر جديدة مثل المخدرات، وبدأت مرحلة جديدة في البحرين، ومع مطلع التسعينات من القرن الماضي، بدأ الشارع السياسي يتحرك مطالباً بالإصلاح السياسي مرة أخرى. وهكذا كانت العريضة النخبوية العام 1992، وثم العريضة الشعبية العام 1994 اللتان رفعتا مطالب حركة 1938 وانتفاضة 1954 - 1956 نفسها، وانفجرت الانتفاضة في 1994 واستمرت حتى نهاية التسعينات.

الميثاق الوطني

مع مطلع العام 2001، كان واضحاً أن الإصلاح السياسي لا يمكن تأخيره بعد كل ما جرى في البحرين، ودشن جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة مشروعاً جديداً بدأه بالتصويت على ميثاق العمل الوطني في فبراير/ شباط 2001 والإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين وعودة المبعدين.

مع كل الاختلافات داخل الساحة البحرينية بشأن جوهر الإصلاحات السياسية، فإنه لا يختلف اثنان على أن مشروعاً بدأ فعلاً على الأرض... ولكن التحدي كان بشأن الإدارة العامة.

السؤال الذي طرح في 2001، ويطرح اليوم بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات هو: هل سيصاحب الإصلاح السياسي إصلاح إداري أيضاً؟ فقد بدأنا القرن العشرين بإصلاح إداري من دون إصلاح سياسي، ونبدأ القرن الحادي والعشرين بإصلاح سياسي، وهو إصلاح لا يمكن فصله عن الجانب الإداري.

وهل سنستطيع نحن البحرينيين أن نصعد إلى مستوى التحدي الذي تتحرك من خلاله الأجندة العالمية أم سنبقى نراوح في مكاننا؟ هذا سؤال ينبغي أن نجيب عليه بعقلانية قبل أن نتراجع بعد أن تقدمنا، تماماً كما تراجعنا القرن الماضي بعد أن كنا في المقدمة

إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"

العدد 785 - الجمعة 29 أكتوبر 2004م الموافق 15 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً