العدد 784 - الخميس 28 أكتوبر 2004م الموافق 14 رمضان 1425هـ

مشروع الحداثة العربية من اللحاق إلى الالتحاق

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد أكثر من مئة سنة وصل مشروع الحداثة (التقليد والمحاكاة) إلى حائط سُدّت أمامه إمكانات «التقدم» في وقت تقهقرت صلات المنطقة بالغرب من وهم اللحاق إلى واقع الالتحاق. ومأزق «الحداثة» يبدأ من وعيها وعدم تطابق مشروعها مع الواقع. فالنخبة قرأت التقدم بوعي مقلوب حين اعتقدت أن التطور مسألة ايديولوجية لا صلة له بموازين القوى وقوانين التدويل وحدوده المرسومة لأسس التقدم والسقف المسموح به عالمياً.

ولم تقتصر أزمة الوعي (الفكر العربي المعاصر) على نخبة نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. فالأزمة امتدت وتشعبت لتغطي مختلف عقود القرن الماضي وهي لاتزال تنتج نفسها في وقت لاتزال النخبة تعيد انتاج نصوص من سبقها بصياغات ومفردات «حديثة» تقرأ التقدم في سياق أوروبي بينما الجماعة (موضوع التقدم) تعيش في فوات زمني لا صلة له بتاريخ أوروبا. وبقدر ما تتقدم الأيام وتتقادم تزداد الفجوة الزمنية مساحة وتتسع في مقابلها فجوة الوعي بين جيل سابق وأجيال لاحقة.

هناك عشرات الأمثلة للدلالة على معنى الفوات الذهني عند المثقفين العرب، وسقوط هؤلاء في وهم «التجاوز» وقصره على مفردات جاهزة تستخدم عندهم من دون تردد أو من دون طرح السؤال عن معنى أو كيفية صدور تلك المصطلحات. وبسبب وهم «التجاوز» وضغوط «العالمية» نجد المثقف (التابع) يعمم تلك المصطلحات ويستخدمها بعقل ساكن، بينما «عالمية» المصطلحات لا تبرر القفز عن دلالاتها التاريخية لحظة انتاجها. فالمفرد العلمي (المجرد) ليس بعيداً عن حالات زمنية أو أزمات حدثت واقعياً في فترة ما. والتقوّل بالعالمية لا يعطل الزمن ولا اللحظات التي تتراكم وتتحول بدورها فتؤدي أحياناً إلى تعديل المضمون الفلسفي للمصطلح بسبب التطور العام أو تعدل الظروف الاجتماعية التي تملي بالضرورة شروطها الثقافية. فاختلاف المجتمعات وتطورها وتنوع البيئات أو تجاوز الدول لأنماط علاقاتها السابقة كلها مسائل تلعب دورها في تعديل إشارات المصطلح ومعانيه وتدفع نحو التفكير في تقديم جواب يدل على استقلالية فكرية أو نسبية في قراءة دلالة المفرد. فالانتساب إلى «العالمية» لا يلغي مسئولية المثقف العربي (التابع) في إعادة قراءة المحطات الزمنية التي مرت بها المفردات ولا تعفيه من مهمة إعادة توظيفها في سياق متصالح مع واقع تاريخي - اجتماعي مغاير ومتغير.

وأسباب ميل المثقف (التابع) إلى التقليد (المحاكاة) الذي يضعف ضمناً إبداعه الذهني ويزيد من تبلده العقلي يعود إلى استسهاله «النقل». فالإسراف في استهلاك منتوج الصانع يتطلب القليل من المجهود على رغم كلفته العالية. والمفردات عند المثقف (التابع) تشبه إلى حد كبير علامات (ماركات) الشركات عند التاجر. فالنقل لا يتطلب معرفة تاريخية بل قراءة لنص جاهز مجرد من المكان وفضاء الزمان.

إلى عشوائية استخدام المفردات في كتابات المثقف التابع تضاف مسألة بحثه عن جواب لأسباب التخلف. فكل تابع يتصور في ذهنه حالات نموذجية تنتمي إلى «عالم متبوع» فيعيد استنساخها أو «تخليقها» مستبدلاً علاقات الواقع بركام من «الايديولوجيا» التي تتوهم الحل وتجاوز الواقع البائس في غفلة من الزمن.

وعلى هذا الوقع الايديولوجي الانقلابي سالت الأقلام على خط موازٍ للانقلابات وما أهدرته من دماء. فالعقلية الانقلابية التي ترفض التصالح مع الواقع لا تختلف كثيراً عن انقلابات الثكن وسيطرتها على الدولة والمجتمع. فالأخيرة تغذت من الأولى وأحياناً خرج ضباط الثكن من المدارس الايديولوجية التي أحاطت المنطقة وطوحتها.

مرّ الآن أكثر من مئة سنة على مشروع «الحداثة» في المنطقة ولايزال الموضوع يشبع بالدراسات المؤدلجة، بينما تشهد «الأصوليات» لحظة ازدهارها متصالحة مع عصر كان هو نتاج «التحديث» ومن صنع «الحداثة». فالحداثة أنتجت نقيضها (الأصولية) ولم تنجح في نقل المجتمع من علاقاته التقليدية إلى علاقات حديثة.

هذا التعارض بين السبب والنتيجة نجد جوابه في التاريخ لا في الايديولوجيا. فالتاريخ يشير إلى نوع من التفريغ العقلي (والعملي) للقوى المنتجة وتحويلها من قوة دافعة للتطور إلى فئات مطاردة ومطرودة من السياسة والدولة.

لعبت الدولة (المعاصرة) دورها في تجويف المجتمع (الأهل) وقطع الصلة بينهم وبين التقدم من طريق الاستبداد والاستئثار بالسلطة واحتكار الثروة وتوزيع الفقر على الناس.

هذا النوع من «الحداثة» أبطل المجتمع وعطل دور الجماعات الأهلية في الانتاج والتفكير وعزل الدولة عن الناس وحوّلها إلى قوة تسلط وسيطرة تستبعد المخالف لرأيها عن دائرتها.

أكثر من مئة سنة مضت على مشروع «الحداثة» العربية ولاتزال الأفكار تكرر نفسها بين مفردات لا تدرك إشاراتها التاريخية وبين واقع يميل نحو التفكك عن الحاضر والانفكاك عن الماضي والمستقبل وبالتالي عن حاجات الأمة وتطلعاتها.

كيف وصل المشروع العربي الحديث إلى الحائط المسدود؟ وكيف أسهم في انتاج «أصوليات» معاصرة بعد أن كان الهدف الأصلي هو انتاج «حداثات» تتناسب مع قياس الدولة واستبداد السلطة؟

الأجوبة كثيرة وكلها تعود إلى زمن مضى له صلة بذاك التعارض في أصول الفكر العربي (الإسلامي) بين العقل والنقل. فكيف بدأت الأزمة وإلى أين انتهت؟

للبحث صلة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 784 - الخميس 28 أكتوبر 2004م الموافق 14 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً