هل نحن أغنياء أم فقراء؟ ما مقاييس الغنى وما مقاييس الفقر؟ هل نحن أغنياء بنفوسنا فقراء في جيوبنا؟ أم ترانا نملك الجواهر والأراضي والأموال ولكنا في غفلة عن كل ذلك، بل وفقدنا الإحساس بما لدينا من متاع الدنيا وكنوزها، وبتنا نشكو الحال وقلة المال، بل خلوّ الجيوب مما يمكن أن يكنزها ويتخمها فيبدل معالمها من الانبساط إلى «كرش» يكاد الجيب أن ينفطر من شدة تخمته؟!
كانت تلك أسئلة ما فتئت تبارح بال صاحبنا عندما قرر في مطلع الشهر وبمجرد أن تسلم راتبه الهرولة إلى إحدى شركات التأمين لتأمين سيارته الأقدم موديل بما تسمح به موازنة جيبه الذي أبى عليه هذا الشهر التمتع بدينار مفرد من الممكن أن «يكوّش» على كل ما يملك قبل أن يؤمن على سيارته وما يترتب على ذلك من مخالفة قد تجعله إلى آخر الشهر نظيف الجيب منبسطه!
صاحبنا لم يكن يملك سيارة ولا أموالا تجعله يؤمن على سيارته «Full Beama» ولذلك فهو مقتنع تماما بالمثل الذي يقول «مد رجلك على قدر لحافك» ورضي بأن يتماشى مع الأجواء السائدة ولا يكون شاذّاً عن قاعدة الغالبية من مواطني هذا البلد الذين لم يسعفهم الحظ أبدا بأن يملكوا سيارة آخر موديل ولا جيباً إن لم يكتنز مالاً فعلى أقل تقدير يهنأ بالراتب إلى نهاية الشهر!
صاحبنا من أولئك الذين رضوا على مضض بأن يؤمّنوا على سياراتهم «طرف ثالث»... فهذا الذي يسمح به الحال «ويخب» فجهز الخمسين دينارا المعتاد على دفعها في كل سنة وتوجه إلى حيث الدفع فما كان منه إلا أن صعق بسماع «المبلغ المطلوب 65 يناراً»!... لماذا؟ قيل إنك طرف ثالث! وما الذي تجدد في الأمر فطوال عمري وأنا طرف ثالث... ليس في التأمين فحسب، بل في كل أمور حياتي... بل وحياة أمثالي ممن يشكلون لو جمعتهم قوة عظمى تسحق أي رقم سيصل إليه أصحاب الـ «فول بيما»... ما كنا نعتقد أننا طرف ثالث في التأمين وفي الأعمال وفي الراتب وفي السكن وفي الخدمات الصحية وفي التعليم حتى التلذذ بأي متاع في هذه الدنيا احتلينا مرتبة الطرف الثالث فيه!
لم يكن من صاحبنا إلا أن لملم نفسه و«دعس» الخمسين دينارا في جيبه مرة أخرى وركب سيارته من دون أن يؤمنها وانطلق عائدا من حيث أتى... ولسان حاله يقول: إن كنت أبيت على جيبي الفرحة بالراتب قبل أن أؤمن على سيارتي فيبدو أن شركات التأمين قلبها رحيم جدا إذ منحتني مكرمة غلبت فيها «طرارة» النواب ومزايداتهم بل وضحكهم على بلوى الغلابة منا... مكرمة الإحساس بأجر تعب الشهر وشقائه ليوم واحد من دون صرف... فقط السمو بالشعور... وعند العودة إليها عليَّ دفع ثمن هذا الشعور وعليه «بقشيش»!
يبدو أننا فعلاً نعيش زمن العجاب وانقلاب الموازين... ولكن مع شركات التأمين انقلاب حالنا نحن أصحاب لقب الطرف الثالث لم يجنِ علينا أبداً بل رفع من حظنا... إذ الرقم (3) الذي كنا نمقته كونه رمزاً للمرتبات الأخيرة دائماً وصاحب الميدالية البرونزية في أحسن الأحوال قررت تلك الشركات مساواته بالمرتبات الأولى فالكل عليه الدفع بزيادة وإن كانت الجيوب مختلفة
إقرأ أيضا لـ "عبير إبراهيم"العدد 783 - الأربعاء 27 أكتوبر 2004م الموافق 13 رمضان 1425هـ