لم يحظَ شاعرٌ بوجودٍ شعبيٍّ متجذر في وجدان أهل هذه البلاد كما حظي به صاحب «فوز الفايز» و«الفايزيات الكبرى» الملاّ علي بن فايز، المتولد بالأحساء والمتوفى بالبحرين، والمدفون بمقبرة سند في المنطقة الواقعة بين قريتي سند وجرداب.
هذا الشاعر الذي استطاع ببساطة الروح، وعفوية الإبداع عن مكنونات أهل هذه الأرض في ارتباطهم بأهل بيت النبوة والعصمة (ع)، وبصدق عاطفته الجياشة، استطاع أن يأتي بإبداعات جديدة ومغايرة على صعيد القصيد الشعبي الحسيني... مغايرة على صعيد اللغة، والتركيب الفني والبناء الصوري، الأمر الذي مكّنه من أن يحضر في وجدان وذاكرة هذا الشعب حضورًا تماهى مع حضور المقدّس، لدرجة أنه لا يمكن استحضارُ شهداء أهل البيت «ع» إلا وكان ملاّ علي بن فايز قرينًا لهم في مجالس العزاء. وهكذا، فقد كرّس بقصائده وطرائقه تقاليد خاصة، بل إن بعض الأطوار الشعرية النَّوْحية التي تؤدّى قد اكتسبت شهرتَها من الارتباط باسمه، فقيل «الطور الفايزي»، ثمّ أصبح هذا الطّور عَلَمًا على البحرين، فإذا قيل «الطور الفايزي» فهو «الطور البحراني» وبالعكس، وراحَ وجدانُ الجموع الهائلة الغفيرة يتشبّع بتلك الفايزيات، ويصرّ على استحضارها بصورة دائبة، بما شكّل لحظة نادرة، وقليلة النظائر - إلا في أحوال مشابهة أو مخصوصة - في العالَم. إنه الحضورُ المقدّسُ للشعر، فيما يجعل التمازج والتماهي معه، وفيه، يصل إلى لحظة الحلول والاتحاد.
إنّ هذا الشاعر العظيم والخطير في تأثيره جديرٌ بكل تكريم وعناية ممكنة، سواء من قبل الأجهزة الرسمية، أو من قبل المؤسسات الشعبية، بل وحتّى من قبل التجار الذين يمكن لهم دعم مشروعات خاصة تردً بعضًا من دَيْنٍ له في ذمة أهل هذه البلاد التي اختارَها محلاً للعيش ومثوًى للروح والجسد، وشهدت تفجُّرَ إبداعه الشعري.
وإذا كنّا نرى الأمم الأخرى تحتفي بشخصياتها العظيمة، وتقيم لهم النُّصُبَ، وتجعل من قبورهم حدائق ومزارات يقصدها الناس، فإن هذا الشاعر يستحق ذلك وأكثر؛ فهل تنبري إدارة الأوقاف الجعفرية لمتابعة إقامة ضريح ومبنى يليق بهذه القامة الشعرية الشامخة، بحيث يتحوّل قبرُهُ مَعْلَمًا من معالم البحرين الكبرى، فيكون مقصدًا للناس من كل حدب وصوب، يتفيّأون ظلالَه، وينصتون لنشيجه؟!
وإذا كانت جوانب تراثية معينة تستحقُّ أن ترصد لها الموازنات الضخمة للبحث، من قبل وزارة الإعلام، فإن هذه الشخصية أحقُّ من سواها بذلك... فهل سنرى موازنة مخصوصة ترصد لدراسة النتاج الفايزي بحضوره الشعبي العظيم والممتدّ، وذلك أقلّ المطلوب والمتوجب على الأجهزة الرسمية المسئولة عن هذا الجانب؟!
وهل نرى المؤسسات ذات العلاقة والشأن تنبري للإنفاق على تنظيم مؤتمر عن نتاج بن فايز، يدعى فيه باحثون مختصّون، ويتوّج ذلك كلّه بإصدارات خاصة تسهم في استحضار ما تمّ تغييبه كلّ هذه المدة، وبما يليق بالمكانة الشامخة له في القلوب والأفئدة.
نطلق نداءَنا هذا على أمل أن يتلقفه من يعي أهمية درس هذا النتاج الواقع في المنطقة البرزخية بين كونه تراثًا ينبغي صيانته وبحثه من جهة، وبين كونه نصاً دائم الحضور والاستعادة، ومتعاليًا على إطار زمانيّته الخاصة به.
فيا أيها الشاعر...!
دمتَ مقدّسًا
وليكن عرشُك في القلوب
فهل نقيمُ لكَ نُصُبًا ومزارًا
فيقصدك عشّاقُك ومتفيئو ظلالك..
العدد 783 - الأربعاء 27 أكتوبر 2004م الموافق 13 رمضان 1425هـ