نظلم العرب الأميركيين كثيراً، حين نحملهم همومنا وأعباءنا، بينما نحن لا نحمل عنهم بعض همومهم وأعبائهم، لقد صدرناهم عبر السنوات الطوال إلى الأرض الجديدة فيما وراء المحيط، وبقينا نراقب من بعيد، أولئك الذين ألقينا بهم في اليمّ من دون معين.
هاجر بعضهم إلى أميركا طلباً للرزق الواسع والمغامرة المبهرة والإثراء العاجل، وهاجر بعضهم فيما أظن هرباً من الفقر والقهر والإحباط وربما التعصب، لكن الجميع أخذ مع أحلام الهجرة، كل ثقافة المجتمع العربي الذي خرج منه مهاجراً أو هارباً... ثقافة الخوف والتوجس والشك!
ولعل أخطر ما لازم المهاجر العربي في أميركا، هواجس الخوف الكامن من اللعب في السياسة، التي ورثها عن مجتمعات عربية غير ديمقراطية، تنهى عن اللعب في السياسة كما تنهى عن اللعب بالنار.
ولذلك تخلفت الهجرات العربية إلى أميركا كثيراً عن اللحاق بكل قطارات العمل السياسي الأميركي، مقارنة حتى بالهجرات الإفريقية، وبالتأكيد مقارنة بالهجرات اليهودية، التي ذهبت إلى الأرض الجديدة مبكراً جداً، ونسجت هناك شبكة أعمالها وتجارتها وعلاقاتها السياسية والاجتماعية، وجاءت اليوم قوة انتخابية مهمة في الساحة الأميركية، يحسب لها الحزبان المتنافسان، الجمهوري والديمقراطي ألف حساب، وأصبحت منظمات اللوبي اليهودي هي الأكثر تأثيراً، وخصوصاً بحكم تاريخها القديم، كما هو الحال مثلاً، مع المنظمة اليهودية الشهيرة «بناي بريث» التي تأسست في القرن التاسع عشر.
ومرة أخرى نحمِّل الأميركيين من أصول عربية، أعباءً كثيرة حين نتصور أن من أهم واجباتهم هذه الأيام، أن يؤثروا في الانتخابات الأميركية التي ستجرى يوم الثلثاء المقبل الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني، لتحدد رئيس أميركا القادم، جورج بوش أم جون كيري... من السهل أن يتساءل البعض، أين أصوات العرب والمسلمين الأميركيين، ولماذا لا يؤثرون كما تؤثر أصوات اليهود الأميركيين؟ لكن من الصعب تجاهل الأمر الواقع...
الفروق كبيرة، نكتشفها ببساطة حين نتعمق في المشهد السياسي الأميركي، فكما أسلفنا، تسلل المهاجرون اليهود - الهاربون من الاضطهاد المسيحي في أوروبا القديمة وبتنسيق دقيق - إلى خلايا نسيج المجتمع المهاجر الجدد فوق الأرض الجديدة مبكراً جداً، وكثف تأثيره في صناعة المال والصناعة والثقافة والتعليم والفن، وبنى شبكة مصالح متبادلة حتى مع الكنائس المسيحية، ووصل إلى أعضاء البلديات وأعضاء الكونغرس معاً، وساهم وساند وموّل، فأصبح «للقوة اليهودية» تأثيرها الواضح على الجميع، وتصاعدت بالتالي قدرتها على استجداء العطف على «إسرائيل» وضمان المساندة الأميركية لها على طول الخط.
وفي المقابل، ظلت الهجرات العربية إلى أميركا مشتتة، في ظل غياب رؤية سياسية اجتماعية ثقافية موحدة أو شبه موحدة، وتوارثت الأجيال الجديدة منها ما جاء به روّادها الأوائل من ثقافة الخوف والابتعاد عن اللعب في السياسة، حتى استيقظوا في منتصف القرن العشرين، في ظل انفجار الصراع العربي الإسرائيلي، والانحياز الأميركي المطلق للدولة العبرية، التي شكلت للمهاجرين الأميركيين عموماً حلماً يشابه حلمهم القديم... حلم المغامرة!
وعلى رغم تفوق عدد العرب والمسلمين الأميركيين، وهم نحو سبعة ملايين أميركي، على عدد اليهود الأميركيين نحو ستة ملايين، فإن التأثير الحقيقي في المشهد السياسي الأميركي لا يُقاس بالعدد، لكنه يُقاس بالقدرة على التواصل والإلحاح والتأثير، وخصوصاً على مفاتيح صناعة القرار وتشكيل الوعي، وهو ما تمارسه «القوة اليهودية» منذ عقود، في حين لم تبدأ المنظمات العامة للعرب والمسلمين نشاطها الفعلي وحركتها الواضحة، إلا بعد هجمات سبتمبر 2001 ضد نيويورك وواشنطن.
إذ بسبب هذه الهجمات الدموية، تعرض العرب والمسلمون الأميركيون، إلى هجوم ساحق وإلى مطاردات أمنية واسعة وإلى تضييق شديد، وخصوصاً بعد صدور القانون الوطني «باتريوت أكت» الذي أطلق أيدي الأجهزة الأمنية بحرية في المراقبة للاشتباه والاعتقال والحبس الاحتياطي، ضد كل من هو عربي ومسلم داخل أميركا، الأمر الذي أصاب الحريات المدنية وحقوق الإنسان بضربة عنيفة، في مجتمع يفخر دوماً بأنه مجتمع حرّ لبشر حرّ.
غير أن الواقع يقول، إن مخاوف العرب الأميركيين قد زادت بعد هجمات سبتمبر/ أيلول، وقال 59,5 في المئة منهم إنهم يشعرون بخطورة آثار التمييز ضدهم في الحياة العامة، في حين أقرّ نحو 35 في المئة أنهم يُعاملون معاملة تمييزية متشددة في المطارات، بسبب الإجراءات الأمنية التي تستهدفهم مباشرة وبتعمد واضح.
وعلى هذا الأساس قفزت أهمية «الحقوق المدنية والإجراءات الأمنية» إلى مقدمة اهتمامات العرب الأميركيين على مدى السنوات الأربع الأخيرة، متقدمة على الموقف الأميركي من الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى الحرب ضد الإرهاب في أفغانستان، بل وعلى غزو واحتلال العراق، وكلها أمور تؤثر على الاختيار النهائي عند التصويت لهذا المرشح أو ذاك.
يقول مدير معهد الأميركيين العرب جيمس زغبي، وهو من أصول عربية أيضاً، إن الأميركيين العرب يشكلون الآن مجموعة انتخابية يُعتمد عليها، لأنها تذهب إلى صناديق الاقتراع بنسب متزايدة من الجماعات والأقليات الأخرى، ولذلك فإنهم يؤثرون قطعاً ويُحدثون فرقاً مع المرشحين المعنيين، وظهر ذلك واضحاً منذ انتخابات العام 2000 التي أثبتت أن 88,5 في المئة من الأميركيين العرب مسجلون كناخبين، ويأتون في المرتبة الثالثة بين الأقليات الأخرى، بعد الأميركيين الأفارقة واليهود.
وقد رأينا أثر ذلك واضحاً في الانتخابات الرئاسية العام 2000، حين صوّت نحو 50 في المئة من العرب والمسلمين لبوش، وصوّت 80 في المئة من اليهود لمنافسه الديمقراطي آل غور، ومن الواضح وفق التطورات الأخيرة في الحملة الانتخابية الحالية، أن بوش المرشح الجمهوري سيخسر نسبة كبيرة من الأصوات العربية والمسلمة، ولن يحصل على ما حصل عليه في المرة الأولى، لأسباب تراها المنظمات العربية والمسلمة واضحة، أهمها طبعاً تطبيق القانون الوطني الذي استهدفهم بالدرجة الأولى، ومارس عليهم الاضطهاد والمطاردة والمُصادرة والمراقبة.
ثم تأتي الأسباب الأخرى، وأهمها موقف بوش المنحاز بقوة وغير العقلاني، مع العدوان الإسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني، وإضافة مجزرة جديدة في العراق بعد أفغانستان، بحجة مطاردة الإرهاب «الإسلامي» وهي تهمة إن طالت العرب والمسلمين في العالم، فإنها هددت حياة العرب والمسلمين الأميركيين بشكل خاص ومباشر.
والخلاصة أن تياراً واسعاً من العرب والمسلمين الأميركيين، يرى أنهم تعرضوا لخديعة كبرى من بوش بعد أن صوّتوا له في العام 2000، ثم مارس سياسات معاداة لهم في الداخل، وفي «الشرق الأوسط»، لحساب انحيازه الهائل لسياسات «إسرائيل» العدوانية، وهو أمر باعد بينهم وبين بوش إلى حد واضح، على عكس أماني الحكومات العربية، فإنه استقطب نسبة كبيرة من أصوات اليهود، التي غالباً ستنقلب هذه المرة، لتصوّت غالبيتها لصالح بوش ضد كيري، عكس ما فعلت في انتخابات 2000.
وبقدر التنسيق الكبير الذي يحكم تصويت «القوة اليهودية» من خلال تأثير منظمات اللوبي الصهيوني المعروفة، وأشهرها الآن «الابتاك»، فإن قوة التصويت العربية والمسلمة، مازالت منقسمة ومشتتة بين ثلاثة تيارات واضحة، تيار لايزال يوجه التصويت لبوش الجمهوري، وتيار آخر يرى ضرورة الانتقام من خيانة بوش لهم، بالتصويت لمنافسه الديمقراطي كيري، في حين يرى تيار ثالث وهو الأضعف، حرق الأصوات، بالاقتراع لصالح المرشح الثالث المستقل، رالف ناور العربي اللبناني الأصل، ممثل حزب الخضر، والمحامي البارع عن القضايا العربية عموماً، على رغم ضآلة فرصته طبعاً.
وعلى رغم أن المرشحين الرئيسيين بوش وكيري، يخاطبان الأميركيين العرب والمسلمين، أملاً في أصواتهم، التي أصبحت قوة صاعدة في المشهد السياسي والانتخابي، فإن خطيبيهما كانا على استحياء، حتى لا يغضبا «القوة اليهودية» التي يعولان عليها كثيراً جداً، وفي مقابل ذلك اندفعا في مزايدة فجة على إرضاء هذه القوة، وفي إضفاء مزيد من الدعم والمساندة لـ «إسرائيل»، وفي تقديم الوعود والعهود، الأمر الذي يضع الأميركيين العرب المسلمين في ورطة وحيرة فيما بين مرشحين أحلاهما مر!
فبوش الذي تفوق على كل الرؤساء الأميركيين السابقين في دعم «إسرائيل»، أهداها حديثاً وعداً سياسياً، يشكل التزاماً، بإنكار حق العودة للاجئين الفلسطينيين، وإنكار حق العرب في العودة إلى حدود ما قبل 1967، على نقيض القرارات الدولية من القرار 194 إلى القرار 338 وغيرهما كثير، وهو الذي منح شارون لقب بطل السلام، وبارك عدوانه الوحشي على غزة والضفة، ثم هو الذي أقر مبدأ أن مهاجمة سياسات «إسرائيل» تمثل معاداة للسامية، المبدأ الذي سرعان ما انتقل عبر المحيط، إلى أوروبا حتى وصل حديثاً البرلمان الفرنسي ذاته!
وكيري المرشح الديمقراطي، لا يقل عن منافسه، سواء فيما يتعلق بالحرب ضد العراق وأفغانستان بحجة مقاومة الإرهاب، أو فيما يتعلق بأزمة دارفور السودانية، لكنه يزايد عليه بقوة في مسألتين، الأولى في دعمه اللامحدود ووعوده التي لا تقف عند حد لـ «إسرائيل»، «التي تواجه مثل أميركاً تهديداً إرهابياً وأمنياً يضعهما معاً في موقف واحد، بحكم أن أميركا ليست آمنة، طالما أن (إسرائيل) تتعرض للهجمات الإرهابية».
أما المسألة الثانية فهي تعهد كيري بالضغط القوي والحاد على الدول العربية والإسلامية، «حتى ترتدع وتوقف تفريخ ثقافة التعصب والإرهاب والتطرف»، وحتى يتحرر المستهلك الأميركي من الابتزاز النفطي العربي، مؤملاً أن يحصل على نسبة التصويت نفسها، التي سبق أن حصل عليها سلفه المرشح الديمقراطي آل غور في انتخابات العام 2000، وهي 50 في المئة من أصوات اليهود.
وهكذا، ندرك مدى الورطة وصعوبة الحيرة التي يقع فيها الناخبون العرب والمسلمون الأميركيون، الذين بدأوا البروز في المشهد الانتخابي هذا العام بصورة واضحة، وإن كانت غير قادرة على منافسة القوة التصويتية لليهود، و
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 783 - الأربعاء 27 أكتوبر 2004م الموافق 13 رمضان 1425هـ