العدد 782 - الثلثاء 26 أكتوبر 2004م الموافق 12 رمضان 1425هـ

من قصص الصداقة الخالدة

هل نسقي أطفالنا من هذا الرحيق؟

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

صداقةٌ عمُرُها خمسون عاماً، لا يمكن القفز عليها بطريقة دبلوماسية حتى لو حاولت المستحيل.

كانت البداية قبل خمسين عاماً. تعطّلت شاحنة أحد الكادحين من أبناء هذا البلد الطيّب في الطريق، فتوقف سائقٌ آخر يعرض عليه المساعدة. ولكون السائق الآخر لديه بعض الإلمام في مجال ميكانيكا السيارات، سرعان ما التقط العلة فصلّح السيارة المتعطلة. بعد هذه المساعدة الطارئة، توثقت عرى الصداقة بين الرجلين، وسرعان ما أخذت العائلتان تزوران بعضهما بعضاً في الأفراح والأتراح، حتى غدا أبناء كل منهما يسمي الآخر عمّاً، وأصبح الناس في سوق المنامة يظنونهما أخوين. وهكذا امتدت الصداقة عبر السنين، فكان كلٌ منهما صندوقاً لأسرار الآخر. ألم يقولوا إن «الصداقة نسبٌ آخر»؟

السائق الأول كُتب عليه أن يسقط صريع المرض، ويبقى في سريره لسبعة أعوام، إذ تكالبت عليه الآلام والأمراض فأصبح قعيداً في غرفةٍ مظلمةٍ طوال يومه وليله. وكلما اشتدّ عليه المرض دعا الله ليقبض أمانته ويريحه من الآلام.

أما السائق الآخر فقد تعرّض لأمراضٍ أخرى، حتى أقعده المرض نهائياً قبل عام واحد. وهكذا حتى اختاره الله إلى جواره قبل أسبوع. في ليلة الوفاة احتار أبناء الصديق كيف يبلغونه الخبر، فقرّ رأيهم على إغلاق الباب لكيلا يتسرّب إليه الخبر، واستنجدوا بأبناء عمّهم علّهم يجدون لديهم مخرجاً. وهكذا وجدتُ على كاهلي واحدةً من أشقّ المهمات التي واجهتني في حياتي: كيف أخبر عمي بخبر رحيل أخيه وصديق عمره؟

في ضحى اليوم الثاني توجّهت إلى منطقته بالنعيم، وقد «برمجت» في عقلي ما سأقوله: سأدخل وأحييه وأسأله عن صحته، ثم أتحدّث معه عن موضوعاتٍ أخرى متفرقة، وسأمهّد للخبر بالحديث عن الموت الذي لا مفرّ منه، وأخيراً سأقول له: «البقية في حياتك يا عمّي».

دخلت غرفته المظلمة، وقبل أن أكمل التحية بادرني بالسؤال مباشرة: «ما هي أخبار أبيك»؟ كل تلك «البرمجة» تبخّرت، وكل تلك الموضوعات التي أعددتها مادةً للحديث جفّت من عقلي. حتى السؤال عن صحّته نسيته، ووجدتني أميل عليه أحتضنه وأنشج، فالدبلوماسية تغور أمام هذا التمثال الضخم من الصداقة الشامخة. وكل ما استطعت أن أقوله إن «صاحب الأمانة استرجعها».

أخذ الرجل السبعيني الممدّد على سريره منذ سبعة أعوام يبكي كالطفل الصغير، واستدار بوجهه إلى الناحية الأخرى وأخذ يلطم على صدره بحرقة، وشعرت أنني طعنته بخنجر معقوف في قلبه، ولم يكن لي من خيارٍ آخر. فليكرهني، وليحمل عليّ في نفسه لأنني نقلت له خبر رحيل صديق عمره، ولكن... لم يكن أمامي من خيار آخر، فإن لم يعرف الآن فسيعرف غداً أو بعد غد.

وهكذا غرق في نوباتٍ متقطعةٍ من البكاء المرير، تخلّلتها كلماتٌ تنمّ عن الفجيعة... «أنا الذي كنت أتمنى الموت سبع سنين فلا يأتيني ويذهب إليه... إنه لم يكن مجرّد صديق، إنه أعز من الأخ الشقيق... كان معي طوال الليلة الماضية، لم يفارقني لحظة واحدة في أحلامي... أخيراً لن أراه أبداً...».

هكذا تفعل الصداقة الحقة بأهلها إذن! صداقةٌ بدأت بمساعدة عارضة في الطريق، وامتدت خمسين عاماً. ترى هل نربّي أطفالنا على هذه القيم الجميلة لنورثهم مثل هذا الوفاء؟ أم أن الزمن «الإلكتروني» تجاوزها لتصبح من الموضوعات التي تصلح مادة للروايات الرومانسية؟

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 782 - الثلثاء 26 أكتوبر 2004م الموافق 12 رمضان 1425هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً