في كلمة ألقاها رئيس الجامعة الأميركية في بيروت جون ووتربيري بتاريخ 4 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري بمناسبة افتتاحه للعام الدراسي، أشار إلى احتمال فوز المرشح الجمهوري بغالبية كاسحة في الانتخابات الرئاسية.
ووتربيري ليس مع جورج بوش، كذلك يعارض السياسة الأميركية الخارجية ويعتبر أن بلاده وصلت إلى حال من الانقسام الداخلي يقارب تلك الظروف التي دفعت الولايات المتحدة إلى الحرب الأهلية في العام 1860. فرئيس الجامعة تحدث في كلمته عن أميركتين، واحدة يطغى عليها اللون الأحمر، وأخرى يطغى عليها اللون الأزرق. وكل لون يستقطب فئات اجتماعية تتعارض مع لون الفئات الاجتماعية الأخرى، الأمر الذي يعطّل على أميركا تقديم صورتها الحقيقية إلى العالم.
استند رئيس الجامعة الأميركية في بيروت في ترجيحه إلى دراسة أجراها قبل أشهر أستاذ الاقتصاد في جامعة يال الأميركية. ووتربيري يؤكد في كلمته أن الأستاذ الجامعي ابتكر طريقة حسابية منذ سنوات وطبّقها مراراً وأصابت دائماً. وفي دراسته الأخيرة يشير إلى احتمال فوز بوش بغالبية 57 في المئة من الأصوات وهي نسبة عالية قياساً بالدورات السابقة. فالجولة الحالية لن تُكرر ما حصل في انتخابات العام 2000، حين أُعلن فوز بوش بقرار صدر عن المحكمة العليا وبغالبية مئات قليلة من الأصوات.
احتمال فوز بوش لا يعني برأي ووتربيري نجاح السياسة الأميركية في تخطي العقبات التي تواجهها داخلياً وخارجياً. فالولايات المتحدة دخلت في دائرة الانقسام الأهلي، وكذلك تحوّلت إلى قوة دولية غير مرغوبة في العالم، لأنها ببساطة تخلت عن نفسها وثقافتها ودستورها وتحوّلت إلى دولة أخرى لا صلة لها بتلك التقاليد التي أُسِّست بصراعات زمنية مديدة.
أميركا إذاً - وبرأي شاهد من أهلها - تعاني من أزمة داخلية لها صلة بتاريخها ووجودها وموقعها ودورها. وهذه الأزمة الداخلية تعيد صوغ شخصية أميركا في إطار انقسامي متوتر يدفعها نحو سلوك سياسات تقويضية في الخارج ينعكس سلباً على هويتها ووحدتها ومكانتها السابقة.
أميركا الآن تعيش أزمة هوية تشبه تلك الفترة الزمنية التي مهّدت لاندلاع الحرب الأهلية بين الولايات الشمالية (الفيدرالية) والولايات الجنوبية (الكونفيدرالية)، وانتهت بعد مصرع أكثر من مليون قتيل إلى انتصار الشمال (الوحدوي) على الجنوب (الانفصالي)، وإعلان الحقوق المدنية وإلغاء تجارة الرقيق وتحرير الأفارقة والمساواة بين المواطنين في إطار الدستور.
انتهت الحرب الأهلية الأميركية الكبرى بفصل مأسوي، وهو اغتيال بطلها المنتصر إبراهام لينكولن، حين كان يشاهد مسرحية. وبمقتله انتهت مسرحية الحقوق المدنية وعادت الأمور إلى سابق عهدها من دون حرب أو اقتتال أهلي. فأميركا آنذاك تجاوزت الحرب وأسست هوية جديدة أجمعت عليها القوى صاحبة المصلحة في حماية وحدة الدولة.
بين اغتيال لينكولن واغتيال جون كيندي في دالاس في مطلع الستينات قرابة قرن من الزمن. وحتى الآن لا يُعرف من هو الطرف المستفيد أو صاحب المصلحة (المُحرِّض) على قتل كيندي، إلا أن الأسباب الدافعة إلى الاغتيال باتت واضحة، فهي كانت على صلة بالانزلاق نحو حرب فيتنام والصناعات العسكرية والاتجاه نحو الهيمنة على الأسواق العالمية، مُضافاً إليها مسألة عدم تطبيق الدستور والمساواة بين المواطنين في الحقوق المدنية.
قرابة مئة سنة تفصل بين اغتيال لينكولن واغتيال كيندي، تغيّرت خلالها صورة أميركا وموازين القوى الدولية، واستمرت في ظلها عملية التمييز بين حقوق المواطن في الدستور وحقوقه الفعلية على أرض الواقع. فأميركا في هذا المضمار ليست واحدة، فهي - كما قال ووتربيري في كلمته - منقسمة إلى لونين: الأحمر والأزرق.
خطورة الانقسام الجديد أنه يُهدِّد هوية أميركا ويُعيد إنتاج الاستقطاب الأهلي، الذي كانت عليه قبل أكثر من 140 سنة، حين اندفعت القوى المتخاصمة إلى الاقتتال والتدمير والحرق والنهب. والأخطر في الانقسام الجديد أنه يُكرِّر السابق ويتجاوزه إلى الخارج. ففي الحرب الأهلية السابقة وقعت المعارك في الداخل الأميركي، أما الآن فإن واشنطن تُريد تصدير معاركها إلى الخارج. والفارق بين الحربين أن الأولى صاغت هوية الدولة، بينما الثانية تطمح إلى صوغ هوية جديدة للعالم.
هذا على الأقل ما يقوله بوش في خطاباته، إلا أن التجارب الإنسانية أشارت دائماً إلى أن الوقائع تُخالف أحياناً الخطابات، وفي أحيانٍ أخرى تُسقطها. فهل يسقط بوش، أم تسقط أميركا في الهاوية؟ هناك أقل من أسبوع لمعرفة الجواب، ولنرى إذا كانت حسابات أستاذ جامعة يال صحيحة أم خاطئة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 782 - الثلثاء 26 أكتوبر 2004م الموافق 12 رمضان 1425هـ