اقترح قاضي محكمة الاستئناف الجعفرية الشيخ حميد المبارك عقد مؤتمر يتناول كل ما يتعلق بتقنين الأحوال الشخصية «للوصول إلى توافق وطني» بشأنه، فيما رأى الشيخ محمد صنقور (أحد علماء الحوزة العلمية) أن الحل يكمن في إحالة الملف برمته إلى «علماء المذهب» ليقرروا خيارهم بأنفسهم، معتبراً ذلك «حقاً محضاً لكل من الطائفتين الشيعية والسنية». فيما اتفق كل من المبارك وصنقور في ندوة عقدتها جمعية الوفاق الوطني الإسلامية مساء الأحد الماضي على رفض تقنين الاحوال الشخصية من خلال البرلمان أو صدوره على شكل مرسوم بقانون.
وفي تعليقه على اقتراح «عقد المؤتمر» قال صنقور لــ «الوسط»: «نحن مع المؤتمر، لكننا نعتقد أن المؤتمر سيتناول الملف من ناحية نظرية إذ ستقدم الأوراق المختلفة بشأنه، أما من ناحية علاج المشكلة فأعتقد أن المؤتمر سيعقدها ويعزز الإشكالات، فيما أن تحويل الملف إلى علماء الطائفة ليتخذوا خيارهم لوحدهم من شأنه أن يعالج المشكلة».
الأمر الواقع
فيما حذر المبارك من مواجهة «أمر واقع» حين تفرض الدولة القانون، قائلاً «ليس بالضرورة أن يبقى الملف رهن إشارتنا، فقد يكون الأمس أفضل من حالنا اليوم في هذا الشأن، وحالنا اليوم أفضل من غد، إن السلطة السياسية تحاول التدرج عبر مراحل استيعاب واستنزاف زخم المعارضة، وهي ليست مستعجلة في ذلك، فنحن سنعترض ونتكلم ونوقف المشروع شهر أو شهرين، سنة أو سنتين أو أكثر إلا أن ما أخشاه هو أن يتكرر الموقف ذاته الذي حصل لنا في الملفات الأخرى وهو أن نفتح أعيننا على أمر واقع».
مضيفاً «علينا ألا نتعامل مع الملفات على أساس ردة الفعل والإثارة تجاه القوى الأخرى، بل علينا دراستها حسب موازين القوي»، داعياً إلى المبادرة لذلك حتى نيل «الكعكة أو أكثرها». إذ قال: «إذا لم نبادر وندرس القضية معاً ونأخذ موقفاً شجاعاً واستراتيجياً سيكون الرابح في نهاية المطاف غيرنا».
كما حذر المبارك مما اعتبره «خطورة فصل المسار السني عن الشيعي» في تداول هذا الملف، مقترحاً «عقد مؤتمر مفتوح تحضر له أوراق فاحصة وجريئة ومتأملة ويدعى إليه خبراء شرعيون وقانونيون وبرلمانيون ومهتمون بذلك من الجنسين، لسماع الآراء المختلفة التي تقربنا إلى التوافق الوطني، إذ لا يكفي أن يكون هناك توافق شيعي بشأن ذلك فقط».
مبدياً استغرابه من التفريق بين العلماء والقضاة في هذه المسألة، مبيناً «إنها مسألة تهم الشريعة كلها وليس أشخاصاً بعينهم».
وطالب المبارك باعتماد لائحة داخلية يتوافق عليها القضاة فيما بينهم، إلا أنه أكد بأن هذه اللائحة لا تعتبر قانوناً بالمصطلح الإلزامي للقانون.
هل القانون ضروري؟
من جانبه انتقد صنقور القول بضرورة تقنين الأحوال الشخصية، قائلاً «إن قول الشيخ المبارك من أن التقنين أمر ضروري ينساق مع الصخب الدائر في الأوساط الرسمية والشعبية بشأن ذلك، و إنني لا أرى ضرورة لسن قانون للأحوال الشخصية من الأساس».
وأخذ صنقور بتفنيد المبررات والمناشئ التي دعت مؤيدي سن القانون إلى القول بضرروته، وهي: أولاً، تأخير الفصل في الخصومات المرفوعة إلى المحكمة الشرعية، وقد يكون ذلك نتيجة: تقصير القضاة، طبيعة القضية إذ تستدعي التأخير لإكمال الوثائق، عناد أحد أطراف القضية، وقلة القضاة مقابل العدد الكبير للقضايا.
معتبراً «هذه الأمور إدارية ويجب أن تعالج إدارياً ولا تحتاج إلى تقنين الأحوال الشخصية، ومتسائلاً زلماذا يتأخر الفصل في قضايا المحاكم المدنية إذا كان السبب في المحاكم الشرعية هو عدم التقنين؟».
مضيفاً «ثانياً: الفساد في القضاء، وإن كنا لا نتهم أحداً بذلك، لكنها أحد المبررات التي تساق لتبرير ضرورة التقنين، فعلاجه أيضاً إداري، فليعزل القضاة الذين لا يملكون اللياقة الأخلاقية، كما أن المحاكم المدنية أيضاً لا تخلو من مثل هذا الفساد.
ووصف النقطة الثالثة بأنها «أقوى المبررات»، وهي «عدم وجود القانون ما يؤدي إلى أن تكون يد القاضي مطلقة يقول ما يشاء ويحكم بما يشاء من دون وجود مرجعية يرجع إليها كل من القاضي والمحامي في ذلك، والمساحة للمترافع تكون ضيقة في غياب القانون».
وفي رده على هذا الإشكال قال «الإسلام والعقل يقران حق الإنسان في الدفاع عن نفسه إلا أن هذا الإشكال لا يخلو من مزايدة، فهناك مرجعية يمكن أن يرجع إليها المترافع، فالقضايا تكون على نحوين: الأحكام الموضوعية والأحكام الجزئية».
موضحاً «الأحكام الموضوعية كتحديد مقدار النفقة، فهناك حكم كلي واضح فيمن تجب عليه النفقة وهو الأب أو الزوج، أما الاختلاف فقد ينشأ في تحديد مقدار النفقة وهي وظيفة القاضي، فيما أن للمحامي مساحة واسعة للدفاع لوضوح الحكم الكلي، أما الأحكام الجزئية فهي كتحديد ما إذا كانت الزوجة ناشز أم لا، فالنفقة واجبة على الزوج في الحكم الكليس.
وخلص صنقور إلى القول «إن الأحكام الكلية واضحة جداً ولا تكون محلا للنزاع، أما الأحكام غير الواضحة فليس للمحامي أو الخصم أن يتكلم فيها بل هي راجعة إلى المرجعية الشرعية سواء وجد القانون أم لم يوجد».
ضعف القضاة واختلاف الأحكام
وتعرض في النقطة الرابعة إلى ضعف القضاة، إذ قال «نحن لسنا مسئولين عن ذلك، هذه مسألة إدارية فليعزل غير المؤهلين، أما كتابة قانون للأحوال الشخصية فلن تحل هذه المشكلة».
وبشأن «اختلاف الحكم في القضايا المتشابهة»، عبر عن هذه النقطة الخامسة بـ «المزايدة الواضحة»، قائلاً «نعترف بوجود هذا الإشكال ولكن ربما يكون هناك توهم من قبل الخصم على وجود التشابه فالحكم قد يتبدل بسبب خصوصية واحدة في القضية، كالحضانة إذ يجب أن تكون الأم مؤهلة لها، لذا فإن منشأ اختلاف الحكم في القضايا المتشابهة قد يكون ضعف القاضي أو فساده أو حكمه تشهياً (أقول هذا على المستوى النظري ولا أتهم أحداً من قضاتنا بذلك) ومع ذلك فإن هذا لا يعد منشأ لضرورة سن القانون».
كما عرض صنقور لصور صوغ وإصدار القانون، فرفض أن يتصدى المجلس بنفسه إلى سن القانون، قائلاً «هذا ما لا يمكن القبول به».
فيما لم يغادر هذا الرفض حين يصوغ القانون من قبل مختصين شرعيين ومن ثم يحق للمجلس أن يعدل أو يحذف أو يضيف عليه، واعتبر خيار أن يكتفي المجلس بالمصادقة على القانون بعد صوغه من قبل المختصين فيقبله كله أو يرفضه كله «من المضحكات... فكيف يصادق المجلس على أحكام من أحكام الله؟ يقبلها أو يرفضها؟».
مضيفاً «أما أن يصادق على القانون مرسوم ملكي فهذا المرسوم بإمكانه أن يتغير فيما بعد ويعطي الحق لمجلس ما أن يعدل القانون».
وبخصوص ما طرحه المبارك من «أن يتبانى القضاة بين بعضهم البعض على مجموعة من المواد»، تساءل: «ماذا إذا رأى القاضي أن مادة منها لا تتوافق مع تقليده أو اجتهاده؟، كما أن هذا ليس شأن القضاة وحدهم بل هو شأن علماء الطائفة كلهم».
وطرح إمكان العمل وفق المشهور من الأحكام، منبهاً بشأن إشكالية أن يرى القاضي بأن المشهور قد لا يبرئ ذمته أمام الله، وأضاف «أما الخيار الآخر وهو ما أتبناه، أن يتم تحويل الملف برمته وكل تفاصيله إلى علماء الطائفة، فهذا حق محض لنا كما هو حق لعلماء الطائفة السنية، فإذا كنا شعباً محترماً ومختارين اعطونا هذا الملف لنتداوله ومن ثم نختار ونقرر فسواء أخطأنا أو أصبنا فإن هذا خيارنا، لكننا لن نقبل بفرض شيء علينا».
وفيما إذا كان تحويل الملف إلى علماء الطائفتين سيغيب الدولة عنه، قال صنقور «الدولة هي التي تحول الملف للعلماء، إذاً فهي غير غائبة»، وفي معرض إجابته على السؤال «ما هو الحل؟»، قال «ليست هناك مشكلة لنبحث عن حل بل إن المشكلات كلها أو غالبيتها إدارية ويمكن حلها».
القانون ليس سحراً
من جانبه نفى المبارك أن يكون التقنين قانوناً سحرياً يحل الكثير من الإشكالات في المحاكم، لكنه رأى من الضروري إيجاد آليات للحد من ظلم القاضي لو سولت له نفسه على حد تعبيره، قائلاً «كلامي لا يتجه إلى التقنين بالمصطلح، ولو ترك لنا الخيار لأخذنا باللائحة الداخلية لإيجاد جو عام من التباين بين القضاة لتقارب وجهات النظر بينهم».
واعتبر مساحة الاتفاق بينه وبين صنقور كبيرة جداً فيما أضاف «لا أتفق في التقليل من المخاطر في ظل عدم وجود ضوابط أحكامية، كما أن اختلاف الحكم في القضايا المتشابهة، كمسألة الحضانة فبعضهم يقول سنتان وبعضهم يقول 7 سنين، فإذا كانت هناك غرفتين في المحكمة إحداهما تحكم وفقاً لهذا الرأي والأخرى وفقاً للرأي الآخر فإن المتخاصمين الرجل والمرأة كل منهما سيذهب إلى المحكمة التي تحكم لصالحه».
واستشهد المبارك بوجود التقنين في إيران بإقرار من الفقهاء، مرجحاً إمكانية إقرار القانون حسب حكم الشهرة أو حكم الحاكم الشرعي، أو كما هو الحال في الكويت أن تتم مراعاة الخصوصيات بحسب المرجع الحالي ويتم ذلك عن طريق تعديل اللائحة بين فترة وأخرى.
فيما طالب صنقور بالإجابة على مسألة الأمر الواقع، ماذا لو فرض علينا القانون؟ كيف نتفاداه؟ وكيف ترون خطورة فصل المسار الشيعي عن السني؟
وعلق صنقور على ذلك قائلاً «إن المجلس الذي يتصدى للتشريع في إيران ليس فوقه مجلس يراقبه، وهو مجلس الخبراء المكون من 80 فقيهاً فإذا اختار البرلمان خياراً محظوراً يوقفه مجلس الخبراء».
فرد المبارك «إن قولكم يوحي بأننا وافقنا على عرض القانون على البرلمان وهذا ما رفضناه، فخيارنا الآن لائحة داخلية لا تصل إلى مدى القانون، بحيث يقرها حاكم شرعي للإلزام الشرعي وإذا لم يكن ذلك فلتكن اللائحة للتوافق والتباني بين القضاة فقط، لقد طالبنا نحن مجموعة من القضاة بحملة من الإصلاحات، أهمها ضرورة الرقابة على القضاة فالقاضي قد ينفعل مع بعض المغريات، وقد طالبنا بتأهيل القضاة وبالتدقيق في المواصفات المنظورة لتعيينهم».
مضيفاً «إننا متفقون على عدم عرض المدونة على المجلس أو صدورها بمرسوم».
وتابع صنقور رده بالقول: «أما هاجس أننا سنكون في المرتبة الثانية والمسار السني سيتقدم علينا وأن الدولة ستفرض علينا القانون ليس في محله، فالدولة اعترفت بوجود القضاء والمحكمة الجعفرية، كما أن الحكم الصادر عن محكمة الاستئناف الجعفرية ينبغي عدم جواز نقضه، فنحن لسنا غائبين نحن مواطنون موجودون ونحن مختارون فليترك لنا الخيار، وأما أن الدولة تريد أن تلزمنا بذلك فهذا لن نقبل به».
وفيما عبر أحد المتداخلين عن رأي صنقور بـ «انتظار الصفعة»، أضاف الشيخ «نحن لن نقبل بالصفعة، نعم الحكومة قوية وإذا استخدمت السيف والنار فهذا خيارها وشأنها هي، لكنني أقول اعطونا الملف لنقرر خيارنا».
بينما شكك متداخل آخر في جدوى تحويل الملف إلى علماء الطائفة الشيعية إذ اعتبرهم غير متفقين على قضايا كرؤية الهلال فكيف يتفقون على قانون الأحوال الشخصية، فرد صنقور قائلاً «طبيعة الاختلاف في مسألة الهلال لا تعبر عن أن العلماء لن يتفقوا في أمور أخرى، نعم لدينا نواقص ولكن عدم وجود كيان علمائي لا يجيز للآخرين سلب حق العلماء في ذلك، تماماً كصاحب الأرض الذي لا يمتلك لها وثيقة لا تستطيع أن تسلبه حقه في أرضه»
العدد 781 - الإثنين 25 أكتوبر 2004م الموافق 11 رمضان 1425هـ