في الخطاب الذي ألقاه عشية افتتاح الحملة الانتخابية الرئاسية الجديدة، قدم الرئيس التونسي زين العابدين بن علي، برنامجاً من 21 نقطة تمحورت بغالبيتها حول الجانب الاقتصادي والاجتماعي، وتعزيز حقوق المرأة والاستمرار بدعم الطبقة الوسطى، ما اعتبره المحللون السياسيون بمثابة تحضير لتونس الغد. ذلك، في ظل أداء باهت لمعارضة أخطأت بحسب رأيهم بالتركيز على الخارج إلى حد الاستقواء به، تحديداً بالتيارات اليسارية الفرنسية، مهملة الاهتمام بالأوضاع الداخلية.
لاحظ المراقبون الذين حضروا افتتاح هذه الحملة بمعرض «الكرم» بضاحية تونس الذي نظمه «التجمع الدستوري الديمقراطي» الحزب الحاكم أن الشأن السياسي كان شبه غائب عن مداخلة رئيس الجمهور المترشح لولاية رابعة. في المقابل خُصّ مستقبل الأجيال القادمة وكيفية فتح الآفاق الجديدة لها، باهتمام استثنائي ملفت، بحيث ربطت استراتيجية المرحلة للسنوات الخمس المقبلة بتحقيق إنجازات على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي.
انطلاقاً من هذا التوجه أعطى البرنامج حيزاً كبيراً للتحدي المفروض على مستوى خلق فرص عمل جديدة بهدف خفض معدلات البطالة. هذه المسألة التي لاتزال تشكّل واحدة من الأولويات الثابتة بالنسبة إلى النظام التونسي، شأنها في ذلك شأن القطاعات الاقتصادية وخصوصاً ما يتعلق منها بـ «اقتصاد المعرفة»، كذلك ما هو مرتبط بالمجالات التربوية والاجتماعية والثقافية.
إن التصدي لهذه التحديات بالنسبة إلى بلد صغير كتونس، لا يملك الثروات الطبيعية من نفط وغاز، على غرار الجارين الجزائري والليبي، يفترض مسبقاً مشاركة نشطة، بل التزاماً من قبل غالبية القوى المكونة للمجتمع. هذا الأخير، الذي أثبت في أكثر من محطة في السنوات الماضية، قدرته على التأقلم مع المستجدات. فالمثال الأبرز على ذلك، تداعيات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، على قطاع السياحة وتدفق الاستثمارات الخارجية المباشرة. هذا الواقع، دفع بن علي لترديد المقولة الآتية أمام الحضور يوم العاشر من الشهر الجاري: «لقد راهنّا على نضوج هذا الشعب، وربحنا الرهان».
وفي استعراض للنتائج الإيجابية التي تحققت منذ وصوله للحكم في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1987 - ما فسره المراقبون بمثابة تسجيل نقاط في مرمى الخصوم، المشتتين، المكتفين بالانتقاد العام تارة، واللجوء إلى بعض وسائل الإعلام الأجنبية وبعض هيئات المجتمع المدني ذات الميول اليسارية - أشار الرئيس التونسي إلى أن ناتج الدخل القومي تضاعف خمس مرات، كما أن دخل الفرد زاد أكثر من ثلاثة أضعاف، وأن الهدف المحدد في 1999 الهادف إلى إيصال هذا الدخل إلى 3500 دينار (اليورو يساوي 1,53 دينار تونسي) في 2004، تم تجاوزه اليوم كون التركيز كان قائماً على الدوام على تحسين مستويات المعيشة، والحفاظ على الرأس مال البشري. فالنفقات التي خصصتها الموازنة للنواحي الاجتماعي التي تمثل حالياً 53 في المئة من المجموع، تعكس هذا التوجه. في حين أن معدل تغطية التقديمات الاجتماعية والصحية تجاوز الـ 86 في المئة. في هذا السياق، لم يتردد بن علي بانتقاد «الليبرالية المتوحشة»، مؤكداً أن برنامجه يهدف قبل أي شيء إلى تعزيز وضع الطبقة الوسطى وحماية مكتسباتها. هذه الطبقة التي لعبت دور السد في وجه أشكال التطرف، وحمت الوحدة الوطنية في أحلك الظروف.
الاستناد إلى الأرقام
ففي تجديد الرهان على الشأن الاجتماعي تضمن البرنامج الرئاسي إشارة واضحة إلى ناحية النية برفع سقف القروض العائدة إلى «البنك التونسي للتضامن»، الذي لعب مع صندوق محاربة الفقر والمعروف باسم «26/26»، نسبة إلى رقم الحساب المصرفي دوراً إيجابياً لصالح الطبقات الأكثر حرماناً، الأمر الذي ساهم في إعطاء زخم متجدد للنظام، وسحب الكثير من الأوراق التي كانت المعارضات على اختلاف أطيافها، تحاول جمعها تمهيداً لاستخدامها في الوقت المناسب، كما تردد ذلك منذ أكثر من عشر سنوات، ومن النقاط الإضافية التي سجلتها الدولة في هذا المجال، إنشاء نظام القروض الصغيرة المتعارف على تسميته بـ «المايكروكريديت»، الذي تكامل مع إطلاق عميلة القروض الاستثمارية لصالح حملة الشهادات العليا من أبناء الطبقتين، الوسطى والدنيا، لإقامة مشروعاتهم وإنشاء شركاتهم.
في هذا الإطار حدّد البرنامج هدفاً يقضي بإنشاء 70 ألف شركة تقوم بمشروعات جديدة، بناء عليه، تقرر إعطاء تسهيلات إضافية للمبادرات الفردية بحيث لا يتجاوز الحد الأدنى لرأس مال الشركة الألف دينار. كما أن الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم تشكل هي الأخرى جزءًا من الاستراتيجية العامة. لذلك، فمن المتوقع إنشاء مصرف خاص بتمويل هذه الشريحة من الشركات قبل نهاية العام الأول من الولاية الرئاسية الجديدة. على أية حال، فإن خلق جيل جديد من الشركات الواعدة، وخصوصاً في مجالي الخدمات والصناعات المتقدمة، يشكل بحد ذاته تحدياً دائماً للنظام طوال السنوات الخمس المقبلة. ذلك لأنه من الصعب تفكيك الحواجز الجمركية، كما هو مفترض وفقاً لبنود اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي من دون إيجاد شركات من نوع مختلف، تواكب التحولات الاقتصادية الكبرى.
فبالإضافة إلى الاهتمام المخصص لثقافة النوعية والجودة، وزيادة عدد المؤسسات التي تحظى بشهادة تطبيق المعايير الصناعية الدولية، تم اعتبار «اقتصاد المعرفة» بمثابة مركب من المركبات الأساسية للاقتصاد الجديد، ورافعة لجذب الاستثمارات الخارجية لتونس. ويتنافس هذا التوجه مع تطوير القطاع المالي والمصرفي الذي يشهد منذ أشهر عملية إصلاح وتحديث وخصوصاً على مستوى الشفافية والنظام النقدي، بحيث تتم عملية تحرير سعر صرف الدينار من دون هزات تذكر. هذا الموضوع الذي يشكل منذ أكثر من ثلاث سنوات محور نقاشات بين مختلف القوى الاقتصادية في البلاد.
أما الفقرة التي استحوذت على اهتمام المراقبين في «برنامج الغد» فقد تلخصت بإعلان وضع أدوات جديدة للتمويل بتصرف المواطنين لناحية تمكينهم من امتلاك منازلهم. إذ بات بمقدور الذين لا يزيد دخلهم عن الألف دينار بالشهر، الحصول على هذا التمويل لشراء سكنهم الاجتماعي. ويشار في هذا السياق، إلى أن 2,3 عائلة من أصل ثلاث تملك مسكنها حالياً. نسبة مرتفعة مقارنة بالدول العربية غير الغنية.
ومن بين الإشارات القوية الأخرى التي تضمنها البرنامج، رفع مستوى الدخل الوسطي للفرد بحيث يصل إلى 5000 دينار في العام 2009. ويراهن الخبراء التونسيون على تراجع النمو الديموغرافي الذي وصل اليوم إلى 1,08 في المئة من أجل تحسين مستويات المعيشة، واستيعاب الزيادة المطردة في طلبات الحصول على عمل من خلال خلق 70 ألف فرصة جديدة سنوياً. أما فيما يتعلق بمعدل البطالة، فقد ذكر البرنامج أنه محدد حالياً بـ 13,9 في المئة، وأنه تراجع وللمرة الأولى في تاريخ تونس نقطتين.
النساء قوامات على الرجال
لم يضع البرنامج الانتخابي الذي عرضه زين العابدين بن علي المرأة على رأس النقاط الـ 21 فحسب، بل عمد إلى تعزيز القانون المتعلق بها وبحقوقها، الأفضل في العالم العربي اليوم. فالمرأة التونسية، هذا الشريك الكامل في المجتمع والذي يستفيد بحظوظ متكافئة مع الرجل، باتت تلعب دوراً متنامياً في الحياة السياسية بحيث تمثل حالياً 11,5 في المئة من أعضاء البرلمان و20,6 في المئة من المجالس البلدية و16 في المئة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي، كما أنها بحسب البرنامج الجديد، ستحصل على امتيازات إضافية ستساعدها على الجمع بين حياتها العائلية والمهنية. فالنقطة الأبرز التي جاءت تعزز قانون المرأة هذه المرة، تلخصت بإيجاد نظام جديد يسمح للأم العاملة فيما لو أرادت ذلك أن تشتغل بنصف دوام، وتحصل على ثلثي أجرها، ومكتسب اجتماعي إضافي يحفظ لها في الوقت عينه حقوق التقاعد والتغطية الاجتماعية الكاملة. فمن المعروف أن المرأة التي تشكل اليوم أكثر من نصف المجتمع التونسي والتي تعتبر النواة الأساسية لطبقته الوسطى، أثبتت كفاءتها وقدرتها في الدفاع عن النظام في أوقات الشدة، كما حصل بنهاية عقد الثمانينات خلال المواجهة مع تيار حزب النهضة الإسلامية.
نقطة أخيرة تمحورت حول احتلال كل من قطاع التربية والتعليم موقعاً رئيسياً في برنامج بن علي. لقد شدد هذا الأخير على مخاطبة الحضور بالأرقام للشهادة على التقدم الذي تحقق في هذا الميدان. إذ تضاعف عدد الطلاب ستة أضعاف بحيث وصل عدد المسجلين في التعليم العالي إلى 26,4 في المئة من بين الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة. كما ستستقطب المعاهد والمدارس الثانوية اليوم، أكثر من مليون تلميذ، ذلك في الوقت الذي لم يكن يتجاوز فيه هذا العدد بداية التسعينات الـ 240 ألفاً. وفي الرهان على الشباب وتحسين بيئة النظام التعليمي، وعد الرئيس التونسي بحاسوب لكل صف قبل نهاية العام 2009.
يمكن الاستنتاج من كل ما تقدم أن تركيز بن علي على الشأنين الاقتصادي والاجتماعي وعلى تعزيز إضافي لدور المرأة، أكثر منه على الجانب السياسي، كان في حد ذاته بعد نظر وقراءة موضوعية وصحيحة لواقع المجتمع التونسي واستباق لتطورات إقليمية. فالمجتمع التونسي، بحسب خبراء محليين، ملّ طروحات الأحزاب السياسية ومزايداتها في الوقت الذي لا تستطيع تلبية أي من احتياجاته المتزايدة. كما أن طرح بن علي سحب البساط من تحت أرجل معارضة داخلية مكتفية بتسجيل المواقف الإعلامية، وخارجية تحارب بالنظارات من بعيد. إلى حد أن أحد المعارضين التونسيين المخضرمين وصف واقعها بالآتي: «هنالك أحزاب لا يتجاوز عدد أعضائها أصابع اليدين، تعقد اجتماعاتها في كابينات الهواتف، وأخرى تناضل من أجل أن يزيد عددها لتتمكن من دخول البرلمان مستفيدة من «منّة التعيين» التي يسمح بها القانون. لكن، ليس هناك معارضة فعلية تتحمل تبعات مواقفها»
العدد 780 - الأحد 24 أكتوبر 2004م الموافق 10 رمضان 1425هـ